الثلاثاء. نوفمبر 19th, 2024

تونس-الدكتورة بدرة قعلول-رئيسة المركز الدولي للدراسات الأمنية والعسكرية بتونس

ان ما يربط فرنسا بمستعمراتها القديمة في إفريقيا ليس الثقافة الفرنكوفونية فحسب كذلك تدخلها المباشر في الأنظمة،فقد تصل الى تعيين رؤساء وحكام تابعين لها. لذلك،فهي تقاوم وبكل شراسة للحفاظ على مكتسباتها وخاصة عندما تحاول شعوب تلك المستعمرات التحرر من سلطتها، أو انتقاد السياسة الفرنسية في بلدانها وخاصة التدخل المباشر والمفضوح في الدولة، وتعتمد دائما على “تسليط” الأنظمة والحكام من أجل قمع أي تحرك ضدّها أو ضدّ مصالحها.

ونأخذ على سبيل المثال جمهورية مالي التي تعتبرها فرنسا مقاطعة فرنسية وتدافع على مصالحها هناك بكل شرسة،كذلك التدخل في الشأن الداخلي للكوديفواروذلك في إشارة واضحة على وجود الدور الاستعماري الفرنسي في إفريقيا خلال أزمة كوت ديفوار ومؤخرا التشاد واغتيال ادريس دبي التي تتهم فيها فرنسا بأنها المدبّرة للاغتيال، وغيرها من الأزمات التي تجلَّى فيها هذا الدور والتأثير. 

فبالنسبة الى مالي أزمتها ليست بالحديثة فهي منذ القديم كان ذلك الصراع بين بين الحكومة المركزية ومجموعات مسلحة من الطوارق، تطالب بحقوقها، وقد تتطرف الجماعات المسلحة في مطالبها إلى حد المطالبة باستقلالها الذاتي مثل منطقة أزواد، وفي كل مرة تتصاعد الأزمة بين المسلحين والحكومة تنتهي بإجراء مزيد من المفاوضات التي تطيل في عمر الأزمة، يُعطى من خلالها الطوارق عدد من الاستحقاقات تنتهي بموجبها الأزمة دون الحاجة لتدخل خارجي.

 إلا أن الأزمة في مالي أخذت منعرجا آخر، وتطورت الأزمة بسبب العديد من العوامل، منها سقوط نظام القذافي في ليبيا، الأمر الذي مكَّن الطوارق من الحصول على أسلحة متطورة وبسط نفوذهم على شمال البلاد.كذلك لا ننسى المنعرج الأخطر والسبب الداخلي وهو الانقلاب العسكري الذي حدث في شهر أوت 2020وهذا الى الآن لا يزال يلقي بضلاله على الوضع العام بجمهورية مالي.

هذا الانقلاب أضعف قدرات الجيش المالي على مواجهة الحركة المسلحة في الشمال، وأدَّى إلى انقسام البلاد، وهو الأمر الذي ساعد الطوارق في حربهم ضد الجنوب. وزاد الموقف تعقيدًا مع دخول مجموعات الارهابية على الخط، ودعمها للطوارق في حربهم وسيطرتهم على عدد من المدن في الشمال. 

أصبح المشهد معقدا جدا في مالي والمجموعات الارهابية المسلحة والمجموعات المتمردة والمعارضة أصبحت تحاول الضغط على الحكومة بل أنها أصبحت تحاول التقدم نحو السيطرة الكاملة على مدن الشمال ومما زاد الأوضاع تدهورا هو التدخل الفرنسي العنيف والقصف الجوي للقوات الفرنسية الذي أصبح يستهدف المدنيين أكثر من الارهابيين، فزاد الحقد شعبيا على فرنسا واتهمت بأنها تساعد السلطات على قتلهم وقمعهم، حتى أصبح الماليين يحتجون ضد فرنسا أمام السفارة الفرنسية.

 إن الهدف الأول للنفوذ الفرنسي في مالي هو حماية مصالح فرنسا الاقتصادية والسياسية، وفرنسا كقوة استعمارية سابقة في إفريقيا وهي تستنزف كل المقدرات الشعب المالي وثروته الطاقية، وبهذا فهي لم تقبل أن تفقد مناطق نفوذها السابقة لصالح القوى الوطنية، أو لقوى أخرى بدأت تتغلغل إليها كالصين وروسيا وإيران وتركيا، لذلك رأت أن الوقت والظروف مناسبان لحماية مصالحها، خاصة بعد اكتشاف الموارد المعدنية، واحتياطيات النفط واليورانيوم والفوسفات في إقليم أزواد. 

وبالتالي فرنسا لن تترك مستعمرتها لأي قوة أخرى بما فيهم القوة الوطنية بل أنها ستستعمل كل الأساليب والمراوغات للبقاء حتى اذا كان على حساب أمن واستقرار الدولة المالية، وهناك من يخشى بأن يكون التدخل الفرنسي في هذه الفترة الحرجة بتطبيق السيناريو الصومالي على مالي، خاصةً وأن معظم الدول المحيطة بمالي دول هشّة على جميع الأصعدة، وستتضرر من التدخل الفرنسي المباشر وخاصة التدخل العسكري العنيف بدعوى محاربة الارهاب والمجموعات المسلحة.

وعندما نشاهد الجغرافيا المحيطة بجمهورية مالي فإننا نجد دول مضطربة وضعيفة وهشّة كموريتانيا، تعاني من أوضاع أمنية واجتماعية واقتصادية مزرية لن تحتمل حرب استنزاف طويلة ولا الحرب الهجينة حرب العصبات المسلحة في هذه المنطقة.

كذلك الجارة الجزائر التي ترتبط بحدود طويلة مع مالي، مما يصعب السيطرة التامة عليها، فضلاً عن أن ردود فعل الجماعات المسلحة التي تسيطر على شمال مالي لا يمكن التحكم فيها، وقد تلجأ إلى دخول أراضي الجزائر في حال اشتداد الضغوط عليهافي مالي، وربما هذا ما تريده بعض القوى التي من مصلحتها ضرب استقرار الجزائر وخاصة معاقبة الجزائر. 

إنَّ التدخل الفرنسي في مالي والتلاعب في هذه الفترة الحرجة والدقيقة يُعتبر بمثابة مقامرة كبيرة وسيكون له ثمن باهظ على فرنسا وعلى المنطقة ككل الساحل والصحراء والغرب الافريقي، وهو استمرار لخطط الهيمنة الغربية على ثروات القارة السمراء كما أصبح التنافس في ما بينهم على أشدّه، وتكرار مستهلك لاستراتيجيات اتبعت في الحرب على العراق لتغيير الكل بالجزء.

 إن أزمة مالي متشعبة ومعقدة، ولن تنتهي باللجوء إلى الخيار العسكري وربما الدخول الروسي على الخط سيضيّق على فرنسا وسيجعلها ترتكب الكثير من الأخطاء، التي تمس من صورتها في المنطقة ككل، وخاصة وأن الماليين في معظمهم يقولون بأن سبب مشاكلهم وازماتهم هي فرنسا، وأن ماضيها استعماري كان مدمرا للشعب المالي، فلا يمكن أن تكون ملائكة اليوم، فأصبحت فرنسا محلّ مقارنةمع روسيا والصين بأنهما ليس لهما ماضي استعماري، بل من الممكن أن يساعدوهم للتخلص من المستعمر الفرنسي. 

وعلى ما يبدوا أن المستعمر الفرنسي في مالي يتحكم في القوة الناعمة وهي الاعلام، الصفحات الأولى في الجرائد ووسائل الاعلام في أغلبها تنشر الأخبار في الإعلام الفرنسي والفرانكوفوني في مالي وبلدان إفريقية، وتعبر عن استحسانها للتدخل الفرنسي في الشأن العام وتعتبره انقاذ لدولتهم، لكنَّ بعض الإعلام وهو البعض الأقل والأضعف، ينتقد بشدة ذلك التدخل، في حين أن معظم الإعلام يرحب به، حتى إن الصحافة الإفريقية انقسمت مواقفها أمام التدخل الفرنسي في مالي، كما في الصومال، بين مؤيّد بخجل ومندّد بشدة، فهل لفرنسا مصلحة من وراء تدخلها العسكري فيها؟،

مالي هذا البلد الغني الفقير التي انهكته الصراعات والانقلابات والحرب الأهلية هو مطمع الدول الغنية والقوى الكبرى من أجل وضع اليد على ثرواته الطبيعية، ولا سيما إذا كانت تلك الثروات في مالي موادّ أولية نادرة كاليورانيوم والبلوتونيوم والسيليكون. أما الذهب الذي يشكّل 15% من موارد مالي المالية، فمناجمه نادرة وقليلة حوالى 10 مناجم فقط، وهو إلى جانب القطن، يشكّل المورد الوحيد للاقتصاد المالي. 

كما لا ننسى أهمية دولة النيجر الجارة لمالي بالنسبة لفرنسا حيث تستخرج شركة “أريڤا” الفرنسية مادة اليورانيوم. وسيكون لامتداد النزاع إلى شمال النيجر أمر خطير على مصالح فرنسا، لجهة تعتبر مصدرها الرئيسي من اليورانيوم الذي يشكل مصدر طاقة مهمة بالنسبة إليها و”أريڤا” هي نتيجة تضافر جهود شركتيْ “ألستوم”و”شنيدر إلكتريك”، وهي مجمع صناعي فرنسي مختصّ بالصناعات النووية، ولها أنشطة تجارية في أكثر من 100 دولة، وأنشطة صناعية في 43 دولة. والنيجر بلد استراتيجي بالنسبة لفرنسا وإلى شركة “أريڤا” التي تستخرج منه أكثر من ثلث حاجاتها من اليورانيوم، وهذا ما يفسّر تحمّلها للمخاطر جرّاء بقائها في هذا البلد. 

غير أن الشركات الفرنسية اكتشفت امتدادًا هائلاً لمناجم اليورانيوم في النيجر تصل إلى أعماق الداخل في مالي. وعلاوة على ذلك، فإن مالي تحاذي موريتانيا الغنية بالنفط، والتي تحصل شركة “توتال” الفرنسية على النصيب الأكبر منه، وتحاذي الكوديفوار عاصمة منطقة الفرنك الإفريقي، كما تحاذي الجزائر الشريك التجاري الأول لفرنسا، والسوق الثالثة لتصريف منتجاتها الصناعية خارج منطقة منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية.

وباستثناء المبررات الجيوسياسية والأمنية التي يطرحها استيلاء أيّ فريق على الحكم في مالي، وانعكاس ذلك على الأوضاع الأمنية في منطقة الساحل الإفريقي، وفي ما يتعدى المبررات الإنسانية الهادفة إلى مساعدة الشعب المالي، فان المصالح الاقتصادية الفرنسية هي فوق كل اعتبار. وقد برّرت فرنسا تدخلها العسكري في مالي بكونها تستجيب لنداء المساعدة العسكرية التي يطلبها منها الرئيس المالي وخاصة مكافحة المجموعات الارهابية والمتمردين المسلحين.

التنافس بين فرنسا وأمريكا على الغرب الافريقي وخاصة على مالي قد خدم مباشرة المتمردين والمجموعات المسلحة وكانت النتيجة اغتنام المسلحين فرصة تمرُّد الطوارق على السلطات المالية المركزية، من أجل فَرْض سيطرتهم على شمال البلاد، وبهذا يمكن تفسير وقوع شمال مالي في يد المسلحين الإسلامين ويسمون “أنصار الدين”، وهذا التنافس الذي لا تهمه مصلحة المنطقة ولا مالي أدى إلى “زجّ” بفرنسا التي اعتقدت أنها بذلك تسبق الولايات المتحدة إليها، وإن كان الطرفان متفقين على تفكيك بلدان المغرب العربي على غرار ما يجري من فرط لكيانات الدول العربية المشرقية، وتفتيتها إلى كيانات ووحدات عرقية ومذهبية وقبلية. 

والملاحظ لعمق التدخل الفرنسي في مالي ينتبه الى شيء خطير وهي أن فرنسا تلعب اليوم لعبة التدخل الاستعماري من جديد بكل الاشكال التقليدية والحديثة، وتعيد إلى الأذهان تجارب ماضيها الاستعماري في البلدان الإفريقية.

إن فرنسا هي البلد الأوروبي الوحيد الذي ينشر قوات عسكرية ميدانية في مالي خاصة والساحل الإفريقي عامة، منذ 2013م، فقد نشرت فرنسا آلاف الجنود سنة 2013م، عندما تدخلت لمساعدة الحكومة المالية على استعادة أراضيها الشمالية من بينها مدن تمبكتو وغاو التي استولى عليها المسلحون والمتمردون. 

وفي المقابل ازداد انتشار الجماعات المسلحة في منطقة الساحل الافريقي، وهي منطقة تمتد من ساحل المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر، وتشمل ما لا يقل عن 14 دولة غنية بالثروات الطبيعية، بما في ذلك أجزاء من مالي وموريتانيا وبوركينا فاسو وتشاد وجمهورية إفريقيا الوسطى. 

أسباب الوجود العسكري الفرنسي في دول الساحل الإفريقي تعتبر لدوافع تاريخية، فالاهتمام الفرنسي بهذه المنطقة يعود إلى الحقبة الاستعمارية طويلة، فقد احتلت فرنسا السنغال وموريتانيا ومالي وبوركينا فاسو والنيجر ولا ننسى احتلالها لشمال افريقيا أيضا. 

في المقابل تحاول فرنسا جلب دول أوروبية أخرى للمشاركة في الحرب ضد المسلحين في الساحل، أين تتمركز العديد من المجموعات الارهابية كبوكو حرام والقاعدة وداعش وكذلك الخوف الفرنسي من المرتزقة الموجودين على الأراضي الليبية الذين أصبحوا يتوافدون على دول الساحل وكذلك دخول السلاح بشكل كبير، وبالتالي تصبح المنطقة ملاذًا آمنًا للجماعات الإرهابية، بنفس الطريقة التي فعلتها بعض الدول الأوروبية في أفغانستان والسودان في العقد الأول من القرن الماضي سنة 1990.