الأحد. نوفمبر 17th, 2024

بدرة قعلول- رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنيةوالعسكرية بتونس

تكتسي العلاقة بين الجزائر وفرنسا جوانب مختلفة تتجه أحيانا نحو التقارب وأحيانا اخرى الى الصراع ويمثّل ملف الذاكرة النقطة المركزية التي تؤثر على جل التعاملات بين البلدين، فرغم ما يبدو من وجود مصالح مشتركة تجمع الطرفين إلا أن تجاوز ما حصل في الفترة الاستعمارية ليس سهلا .

جرائم الاستعمار الفرنسي في الجزائر

يتلخّص المسار التاريخي للعلاقة بين الجزائر وفرنسا في ثلاث منعطفات كبرى، حصار، فاستعمار ثمّ استقلال، وأبرز ما يمكن الاشارة إليه في هذا المسار هي تداعيات حرب بين المقاومة الجزائرية والمحتل الفرنسي الذي مارس جرائم كبرى في حق الجزائر في تلك الفترة.

حصلت الجزائر على استقلالها في 5 يوليو 1962 بعد احتلال دام 132 عاما وحصل ذلك مباشرة بعد ثورة التحرير التي اندلعت في 1954 (استمرت ثمانية سنوات)، بحيث حفل التاريخ الاستعماري الفرنسي للجزائر بأحداث دامية لازالت إلى اليوم بعد 59 سنة من الاستقلال راسخة في الذاكرة الجمعية للجزائريين لما خلفته من خسائر بشرية فادحة، فقد كشف تقرير عن الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الانسان في عام 2017 أن الاستعمار الفرنسي تسبّب في مقتل 10 ملايين شخص، إذ لم تولي فرنسا أدنى أهمية للعنصر البشري في احتلالها للجزائر، الى الحد الذي جعلها تقوم  باستخدام الشعب الجزائري من رهائنها كدروع بشرية في معاركها مع جيش التحرير الوطني الجزائري، ولم تقف عند حدود ذلك فقد زخر تاريخها الاستعماري بجرائم الإبادة للعديد من القرى، الى جانب طرق تعذيب اخرى في غاية الوحشية كالصعق الكهربائي وسجن المقاومين في الآبار المائية وإلقاء الرهائن من المروحيات، وقتلهم خنقا بدخان الحرائق.

يوثّق متحف “الانسان” بباريس أو بما يسمى متحف “التاريخ الطبيعي” إرثا استعماريا هائلا يتمثّل في 18 ألف جمجمة للثوار من الدول التي احتلتها فرنسا، وبناء على ما أشار إليه المؤرخون، فإن هذه الجماجم تمّ توظيفها سابقا لتزيين قصور الحكام الفرنسيين اعتزازا بما حققوه من انتصارات، وقد سار الجيش الفرنسي على نفس الخطى حيث قام في كل معركة فازها ضدّ الثوار بالتباهي برؤوس العدو المقطوعة، ويمكن القول ان هذا النوع من الممارسات متعلق بخلفية ثقافية للديانة المسيحية.

ومن ضمن الجماجم الموجودة في متحف الانسان تمّ الكشف عن 500 جمجمة لثوار جزائريين تضّمنت الكثير من القادة البارزين للثورة الجزائرية ورؤوس لنساء وأطفال كانت تُستخدم سابقا لتخويف بقية الثوار، وفي الفترة الموالية للاستقلال تمّ نقل جماجم القادة المناضلين الى متحف باريس كعلامة تاريخية على الانتصارات التي حققتها فرنسا في الفترة الاستعمارية، وهو ما يثير سخط الجزائريين حتى بعد التحسن النسبي للعلاقات بعد سنوات عديدة من دمار الاحتلال .

في يوليو من عام 2020 أرسلت الجزائر طلبا للسلطات الفرنسية  لاسترداد جماجم القادة الثوار، وتمكنت من الحصول على 24 جمجمة تعود لمنتصف القرن 19 في انتظار استكمال الحصول على البقية.

كما وثّق التاريخ أيضا المجزة التي قامت بها فرنسا في نهر “السين” ضد الثوار الجزائريين، حيث واجه المحتل 60 ألف متظاهر بالرصاص الحي وقامت بإلقاء البعض منهم في النهر، حيث بلغ عدد الضحايا 1500 قتيل و800 مفقود، وتمّ اعتقال عدد كبير منهم من الجيش الفرنسي لإعدامهم واستعمالهم كدروع ووسيلة للترهيب.

لم يكتفي المستعمر الفرنسي بتلك الجرائم الشنيعة، حيث عمد الى القيام بتجارب نووية عديدة في صحراء الجزائر في الفترة الممتدة بين عام 1960 و 1966 ، كانت تداعياتها مقتل 42 ألف جزائري وتشويه الالف جرّاء الاشعاعات النووية.
ملف الذاكرة

يبدو أنّ ما دار من أحداث في تاريخ العلاقة بين البلدين خلال الفترة الاستعمارية تمكّن فعليا من تشويه العلاقات العصرية بينهما، فعلى الرغم من مظاهر التقارب على مدار السنوات العديدة التي تلت الاستقلال إلا أنه لم يكن لأحد القدرة على الجزم بودية العلاقة، حتى أنّ الكثير من المراقبين وصفها بالتعقيد.

في الحقيقة كان من المستبعد جدا أن يتجاوز الجزائريون تلك الفترة الفظيعة التي تفنّنت فيها فرنسا في التنكيل بهم، فالذاكرة تمثّل أحد العناصر البارزة التي تتحكّم في علاقات اليوم بين الجزائر وفرنسا وهي التّي تثير عديد القضايا الثانوية وتضع الكثير من العثرات أمام التقارب الذي يحصل، وما حصل قديما يمنع من الجزائرمن  تطوّير العلاقة رغم مراهنة الطرفين على طي تلك الصفحة الدامية وخاصة عمل الرئيس ماكرون على السيطرة على الاوضاع.

حاليا يقع تبادل الصفعات بين البلدين، يثير ماكرون الرأي العام بتصريحاته التي اعتبرتها الجزائر مهينة، كما أعلن قرار ترحيل المهاجرين الغير نظاميين والائمة المتهمين بالتطرف الديني من الجزائريين وتقليص التأشيرات، في حين تستنكر الجزائر ذلك وبشدة وترد بعدم تجديد عقد مجمع المياه الفرنسي وغلق مجالها الجوي على الطائرات الفرنسية … ويبيّن ذلك ما يمكن وصفه بالحرب الباردة بينهما، إذ تطالب الجزائر فرنسا الى غاية اليوم باعتذار رسمي واعتراف يعيد القليل من اعتبارها أمام المجتمع الدولي  لتتمكّن من تشييد علاقتها معها على أساس يحفظ كرامتها .

وصل سوء الاوضاع الى ذروته بالاستنقاص من الدولة الجزائرية وتصريح ماكرون أن الجزائر لم تكن امة قبل الاستعمار الفرنسي مدينا النظام السياسي العسكري هناك معتبرا إياه  وفقا لتصريحاته الركيزة الاساسية التي مثلت عائقا أمام تجاوز البلدين ملف الذاكرة.

في الحقيقة هناك شعورين لا يمكن التخلص منهما، أولا شعور فرنسا بالاعتزاز بتلك الفترة التي اتسمت بانتصارات في عديد المعارك ضدّ الثوار الجزائريين، رغم ما يبديه ماكرون من رغبة في تجاوز هذه النقطة السوداء، لكن ذلك يبدو واضحا بالنسبة للجزائر، ثانيا الرغبة لدى الاخيرة في الانتقام وإعادة اعتبارها التي تشعر أنها فقدته منذ الفترة الاستعمارية وصولا الى الفترة التي تحسنت فيها العلاقات نسبيا بين الطرفين بعد الحصول على استقلالها، ويرى بعض المحللين الحقوقيين أنّ مجرد التحدث عن ما حصل في تلك الفترة بالطريقة التي تصف ضحايا الاستعمار الفرنسي وشراسته في الاحتلال يمكّنها بطريقة غير مباشرة من إضفاء الشرعية على “بطولاتها الاجرامية” في الوقت الذي تتوفّر فيها فرصة المحاسبة، لذلك فإن إحياء تلك الاحداث دون محاسبة فعليّة على أرض الواقع ليست لها أثار ايجابية بقدر تمييع حقوق الانسان، إذ يدعو استاذ الحقوق الجزائري “عابد نعمان” في هذا السياق الى “الوعي بعدم الدخول في أي سجل مهما كان نوعه، والانضباط للقوانين، حيث يبقى المجرم مجرما فاقدا لأي شرعية ولا نعطيه أكثر من حجمه المحدد في القانون، من أهم أدوات مواجهة هذه المحاولات”.

كما يشير نعمان الى أن الماضي الاستعماري هو عقدة ثابته في العقل الجمعي الجزائري وأنّ الاعتزاز بالانتماء والوطن في عديد المناسبات لا يؤكد إلا استفحال هذه النقطة السوداء ، ولا يمكن استغراب ذلك مع طبيعة الشخصية الجزائرية المتعصّبة لانتمائها، ووضح أستاذ الحقوق أنّ فرنسا تثير ملف الذاكرة لكسب شرعيتها وتشويش الرأي العام الجزائري، كما أشار أن الدعوات الفرنسية المختلفة لتجاوز القديم ليس إلا محاولات شكلية ولها هدف إثارة الماضي، حيث أن فرنسا لا يمكنها تجاوز “تاريخ الانتصارات” ، لكن يمكن القول أنّ هناك مصالح حالية مع الجزائر تعتبر ذات أولوية كبرى بالنسبة لفرنسا لا يمكن التضحية بها، لذلك قد تحدّد هذه المصالح أساليب التعاطي مع ملف الذاكرة .

لكن ما الداعي لتصريحات ماكرون المستفزة رغم أن العلاقة مع الجزائر على حافة الهاوية ؟

ما وراء تصريحات ماكرون

استهدفت تصريحات ماكرون الطبقة العسكرية في الجزائر، وهي ضربة قاضية استفزت العديد من الجزائريين، لذلك نعجز عن القول أنّ الاشارة كانت على هامش الصدفة في ظلّ الادراك الكبير لرمزية النظام العسكري في الجزائر، إذ يعتبر رئيس فرنسا أنّ بلاده واجهت العديد من العثرات خلال حرصه على بناء علاقة لا تشوبها على الاقل احداث الذاكرة، والمسؤول الرئيسي عن ذلك بالنسبة له هو النّظام العسكري الجزائري التي كانت السبب في الاصطدامات التي لازالت متواصلة بين فرنسا والجزائر.

ويُذكر أن مساعي ماكرون لضمان الاستقرار بين البلدين انطلقت حتى قبل أن يصبح رئيسا للجمهورية الفرنسية، حيث صرّح في الفترة الانتخابية لعام 2017 أنّ فرنسا تدين اعتذارا للجزائر على جرائمها في الفترة الاستعمارية، وقوبلت آنذاك هذه التصريحات بإدانات شديدة من اليمين المتطرف في فرنسا، وقد دفعت المصالح مواصلة ماكرون بعد ترأسه لفرنسا جهوده في تحسين العلاقة بين البلدين رغم إحاطة العديد من العراقيل لهذه المحاولات والتي من أبرزها التناقض الواضح بين السيناريو الجزائري في نقل أحداث الفترة الاستعمارية ونظيره الفرنسي الصادر عن المؤرخ “بنجامان ستورا”، حيث اثار التقرير غضب الجزائريين لعدم احتوائه على أية اعتذار فرنسي، وظلّت محاولات ماكرون دون فائدة في تحقيق النتائج المأمولة.

وتوضيحا لما قاله ماكرون تحديدا خلال إدانته للطبقة العسكرية الجزائرية، ذكر أن النظام العسكري شيّد حواجز متينة تتمثّل في احداث الفترة الاستعمارية، حيث اكّد أن سياسة العسكريين الجزائريين هدفها واضح، وهو اعتبار فرنسا عدوا من الماضي وفي الحاضر ونحو المستقبل، كما اعتبر ماكرون أنّ الكراهية لا تنبع إلا من النظام العسكري وأن العقل الجمعي الجزائري المدين لفرنسا ليس إلا دعاية لتعميق ازمة العلاقات.

وعلى الرغم من إدانة النظام العسكري، حرص ماكرون على إخراج الرئيس الجزائري تبون من تصريحاته اللاذعة مشيرا الى أنه عالق في “نظام صعب جدا”، مؤكدا على حرصه على جانب التهدئة وإيجاد سبيل لتجاوز ملف الذاكرة.

وتبدو النقطة المحورية المثيرة للغضب الجزائري في تصريحات ماكرون هي تصنيف النظام السياسي في الجزائر كنظام عسكري، فرغم المعروف عن أهمية دوره المتجاوزة حتى لمهمة الدفاع ووصولها لتحديد القادة وتحديد مصير الدولة إلا أن الجزائر ترى أن هذه التسمية تطعن في شرعية نظامها القائم مباشرة في بداية الاستقلال وتذكرها بتاريخ الانقلابات، في المقابل يرى ماكرون أن النظام السياسي في الجزائر يعمل على استمداد شرعيته (الذي يدرك جيدا أنها مفقودة) من الافكار الثورية التي يعمل على زرعها في المجتمع الجزائري للبقاء في الحكم بالتركز على بث كراهية فرنسا.

الى جانب ذلك، تركّز سياسات ماكرون الحالية حول هدف واحد، وهو الفوز بالانتخابات الرئاسية الجديدة، لذلك فإن تصريحاته وقرارته السياسية الحالية يحرّكها الجمهور الانتخابي، فمن المُلاحظ جدا تذبذب ماكرون في تصريحاته بين التصعيد والتهدئة وذلك حرصا منه على السير بما يحقق رغبة الجمهور المختلف.

ومن جانب اخر، تحيط بفرنسا اتهامات اخرى من أهمها عدم التعاون مع الجزائر في جهودها ضد الحركات الارهابية وهي حركة تقرير المصير في منطقة القبائل (حركة الماك) وحركة رشاد الاسلامية، حيث أشار الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون الى أن ايواء فرنسا لزعيم حركة الانفصال “فرحات مهني” المطلوب دوليا وعدم تسليمه الى السلطات الجزائرية ليس له أيّة تبرير معقول وذلك سيدخل البلدين ف جبهة جديدة للصراع .