صحيفة ” النهار” اللبنانية- الدكتور عمرو فاروق: باحث في الجماعات الارهابية
هل تتخلى حركة “طالبان” عن دعم تنظيم “القاعدة”؟ هل ترى مصلحتها بعيداً من رجال أسامة بن لادن؟ هل تلتزم حقاً وعدها الإدارة الأميركية عدم تحويل كابول حاضنة فكرية وتنظيمية لإعاة إحياء تنظيم أيمن الظواهري؟ العلاقة بين حركة “طالبان” وتنظيم “القاعدة” متشعبة ومتعمقة على أكثر من مستوى، فلا يمكن أن ينسى أبناء الملا عمر، الخدمات التي قدمها أسامة بن لادن للحركة، من خلال الاستعانة بعناصر التنظيم لإحكام السيطرة على المشهد في كابول في تسعينات القرن الماضي، والقضاء على كيانات المعارضة المسلحة التي قادها أمراء الحرب، فضلاً عن “قوات تحالف الشمال” بزعامة أحمد شاه مسعود، الذي قُتل على يد عناصر التنظيم القاعدي في 9 أيلول (سبتمبر) 2001.
كما استعان الملا عمر بعدد من أصحاب الخبرات العلمية والأكاديمية الموالين لتنظيم “القاعدة”، وشاركوا في الحرب الأفغانية برفقة أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وعبد الله عزام، ووضعهم في قلب الحكومة الطالبانية الجديدة، بهدف تثبيت أركان الولاية الإسلامية الوليدة. دعم رجال تنظيم “القاعدة”، لقادة حركة “طالبان”، والعكس، يأتي في إطار مفهوم “البيعة”، التي أعطاها أسامة بن لادن للملا عمر، واصفاً إياها بـ”البيعة الكبرى”، لرمزية الدولة الإسلامية، وأنها ليست “بيعة جهاد”، وأن إمارة “طالبان” في أفغانستان كانت أول إمارة شرعية بعد سقوط الخلافة العثمانية (على حد زعمه)، وجعلها ملزمة لأتباعه ومريديه، ومن ثم التزم بها أيمن الظواهري عقب مقتل بن لادن، مع مخلتف زعماء “طالبان”، أمثال الملا أختر منصور، والملا هبة الله أخوند زاده.
جاءت متن “بيعة” الظواهري لزعيم “طالبان”، كالآتي: “إني بوصفي أميراً لجماعة قاعدة الجهاد، أتقدم إليكم ببيعتنا لكم، مجدداً نهج الشيخ أسامة في دعوة الأمة المسلمة لتأييد الإمارة الإسلامية وبيعتها”، مضيفاً: “نبايعكم على كتاب الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، وعلى سنّة الخلفاء الراشدين المهديين رضي الله عنهم، ونبايعكم على إقامة الشريعة حتى تسود بلاد المسلمين حاكمة لا محكومة، قائدة لا مقودة، لا تعلوها حاكمية ولا تنازعها مرجعية، نبايعكم على البراءة من كل حكم أو نظام أو وضع أو عهد أو اتفاق، أو ميثاق يخالف الشريعة، سواء كان نظاماً داخل بلاد المسلمين أم خارجها من الأنظمة أو الهيئات أو المنظمات التي تخالف أنظمتها الشريعة، كهيئة الأمم المتحدة وغيرها، ونبايعكم على الجهاد لتحرير كل شبر من ديار المسلمين المغتصبة السليبة”. بيعة بن لادن والظواهري، تفرض على تنظيم “القاعدة”، الالتزام التام بالدفاع عن حركة “طالبان” ورجالها، لا سيما في مرحلة “الضعف” وصولاً إلى مرحلة “التمكين” والاستحواذ على السلطة أطول فترة ممكنة، من دون السقوط في براثن الانهيار مثلما حدث من قبل عام 2001.
ثمة تفاهمات بين حركة “طالبان” وتنظيم “القاعدة” ترفع عنها الحرج أمام المجتمع الدولي، بسبب تخوفها المسيطر عليها من رفع الدعم والغطاء السياسي عنها من قبل الولايات المتحدة، وإيجاد بديل سياسي يحقق مصالح واشنطن في الشرق الأوسط، ما يدفعها لاستخدام خطاب إعلامي استهلاكي مناهض لتنظيم “القاعدة” موقتاً في هذه المرحلة الراهنة، في محاولة لصناعة صورة ذهنية ترسم وجهها السلمي السياسي، وكأنها بعيدة تماماً من مشروع الجماعات الأصولية الراديكالية المعادي لمصالح اللوبي الأميركي. نقلت الجماعات الأصولية “البيعة” من مفهوم شرعي للإسلام كدين، إلى ولاء لكيان تنظيمي أو جماعة دينية، أو حزب سياسي ذي مرجعية دينية، لتحقيق أهدافها تحت عباءة الإسلام والشرع، ومن ثم هيمنت قضية “البيعة”، على حركات الإسلام السياسي منذ سقوط الخلافة العثمانية عام 1924، وانعكست على مفهوم المواطنة، إذ من خلالها يفقد العضو ولاءه للوطن، في مقابل ولائه للجماعة وأميرها.
تمثل “البيعة” أحد أركان تيارات الإسلام الحركي، والرابط الذي يتم من خلاله السيطرة على سلوكيات الأتباع وضمان الولاء والبراء للتنظيم، وتعني التسليم المطلق لأمير الجماعة، وعدم منازعته في الإمارة مع التزام مختلف القرارات الصادرة عنه من دون نقاش أو تفكير، حتى وإن خالفت العقل والمنطق. وضعت الجماعات الأصولية، “البيعة” نصب أعينها، لا سيما أن عملية الانضمام إلى مكوّناتها التنظيمية لم تكن بالأمر السهل، إذ لا بد من الإيمان بأفكارها وأهدافها قبل الانخراط في صفوفها ومبايعة أميرها. تفرض “البيعة” لدى تيارات “السلفية الجهادية”، الكفر الصريح بالحكومات المدنية والتشريعات والدساتير التي تصدر عنها، ومختلف مظاهر الدولة المدنية الحديثة، وهي “بيعة” تحرّض على تبني العمل السري، والتعهد بتحقيق أهدافها التنظيمية ومتطلباتها اللوجستية. بعيداً من “البيعة التقليدية”، اتخذ تنظيم “القاعدة” مفهوماً مغالياً لـ”البيعة”، أصّلت له المرجعيات الشرعية والفكرية، أمثال فارس آل شويل الزهراني المكنى بـ”أبو جندل الأزدي”، تحت مسمى “بيعة الموت”، وهي البيعة التي خرجت من رحمها الخلايا “الانتحارية”، أو خلايا “الانغماسيين”. في حالة التضييقات الأمنية تستبدل الجماعات الأصولية، نظام “البيعة المباشرة” إلى “البيعة غير المباشرة”، وتكون بالوكالة عن طريق المكاتب الإدارية واللجان الفرعية، مثل جماعة الإخوان (نموذجاً)، أو من خلال شخص يقوم بأخذها نيابة عن الأمير أو المرشد أو الشيخ، وفي عصر التطور التكنولوجي تم الاعتماد على أخذ “البيعة” من خلال الرسائل الصوتية، ورسائل الواتس آب.
ومنذ ظهور تنظيم “داعش”، تم اللجوء لما يسمى بـ”البيعة الإلكترونية”، بهدف توسيع دائرة الأتباع في مخلتف البقاع الجغرافية، بل انتشرت معها “بيعة” التنظيمات وروافدها، مثل بيعة “بوكو حرام” و”المرابطون” في شمال أفريقيا، و”أنصار بيت المقدس” في سيناء، و”ولاية خراسان” في باكستان وأفغانستان.
كانت “البيعة”، إحدى الأدوات التي أشعلت الصراعات والخلافات والصدام المستمر، بين تنظيم “داعش” وتنظيم “القاعدة”، على مدار السنوات الماضية، والتسابق حول ضم العناصر الجديدة، لا سيما المنتمية الى الميليشيات المسلحة في العمق الأفريقي والآسيوي، والموالية فكرياً للسلفية الجهادية. بعض الجماعات الأصولية، لها بيعات داخلية، وليس بيعة واحدة، لا سيما في التنظيمات التي تشهد تدرجاً وتراتبية تنظيمية، مثل جماعة “الإخوان” ونظامها المسلح، ومثلما اتفقت غالبية الكيانات الأصولية في عدد كبير من الأطر والأدبيات الفكرية، اتفقت جميعها على أن “البيعة” لا تجوز في حق المرأة، فاستُثنيت من تلك القاعدة. كانت جماعة الإخوان من أوائل تيارات الإسلام السياسي التي استخدمت “البيعة” مع عناصرها، وفقاً لما طرحه حسن البنا في رسالة التعاليم قائلاً: “أركان بيعتنا عشرة فاحفظوها: الفهم، والإخلاص، والعمل، والجهاد، والتضحية، والطاعة، والثبات، والتجرد، والأخوة، والثقة”، ويقول في شرح أول هذه الأركان: “إنما أريد بالفهم: أن توقن بأن فكرتنا إسلامية صميمة، وأن تفهم الإسلام كما نفهمه، في حدود هذه الأصول العشرين”.
تعتبر “البيعة” داخل الإخوان بمثابة استسلام تام لتوجهات الجماعة وقياداتها، والتي نصت على: “أعاهد الله العلي العظيم على التمسك بدعوة الإخوان المسلمين، والجهاد فى سبيلها، والقيام بشرائط عضويتها والثقة التامة بقيادتها، وأن أسمع وأطيع في العسر واليسر والمنشط والمكره، وأقسم بالله العظيم على ذلك، وأبايع عليه والله على ما أقول وكيل، فمَن نكث فإنما ينكُث على نفسه ومَن أوفى بما عاهد عليه اللهَ فسيؤتيه أجراً عظيماً”. ولدى جماعة الإخوان بيعتان، واحدة عامة والأخرى خاصة، بمقتضى “البيعة العامة”، يصبح العضو فاعلاً في صفوفها، وعليه بحسب البنا: “مقاطعة المحاكم الأهلية وكل قضاء غير إسلامي، والأندية والصحف والجماعات والمدارس والهيئات التي تناهض فكرتك الإسلامية مقاطعة تامة”، أما “البيعة الخاصة”، فهي بيعة “التنظيم الخاص”، وتكون على المصحف يعتليه المسدس داخل حجرة مظلمة، وتلك “بيعة عسكرية” يتم فيها انتقاء الأفراد لتنفيذ مهام أكثر سرية ودموية. يقول القيادي الإخواني، محمود الصباغ في كتابه “حقيقة النظام الخاص”: “ثم يقال له فإن خنت العهد أو أفشيت السر فسوف يؤدي ذلك إلى إخلاء سبيل الجماعة منك ويكون مأواك جهنم وبئس المصير”، ويضيف: “وعلى الفرد ألا يقدم على أي عمل يؤثر في مجرى حياته كالزواج والطلاق قبل أن يحصل على تصريح به من القيادة عن طريق أمير الجماعة”.
بينما جاءت “بيعة” خلايا تنظيم الجهاد المصري، قائلة: “أبايعك على السمع والطاعة في المكره والمنشط، وأن أضع إقامة شرع الله نصب عيني، وأن أبذل لتمكين ديني كل ما أملك من نفس وروح ومال وولد”. انتقلت هذه “البيعة” تدريجياً إلى “الجماعة الإسلامية” في القاهرة، لا سيما عندما تحالفت مع تنظيم “الجهاد” في اغتيال الرئيس السادات في تشرين الأول (أكتوبر) 1981، بالتنسيق مع محمد عبد السلام فرج، وخالد الإسلامبولي، وطارق وعبود الزمر.
ما زالت الجماعة الإسلامية، تأخذ “البيعة” من عناصرها في ما بينهم حتى الآن، لا سيما خلال اختيارهم أميراً جديداً للجماعة، وكان آخرها اختيار أسامة حافظ، بعد وفاة عصام دربالة في آب (أغسطس) 2015، وفقاً لتصريحات عاصم عبد الماجد، عضو مجلس شورى الجماعة الإسلامية، من أن “بيعة” أعضاء الجماعة الإسلامية موجودة لكنها غير مكتوبة أو منطوقة، وهي بمثابة التزام أدبي. بعض التيارات السلفية، تعتمد على ما يسمى بـ”بيعة الإتباع”، وهي بيعة غير ملزمة، إذ إنها تيارات فكرية وليست كيانات تنظيمية، وقد كشف الشيخ محمد سعيد رسلان، أحد قيادات السلفية المدخلية في مصر، أن “سلفية إسكندرية”، يعطون البيعة لأميرهم محمد عبد الفتاح أبو إدريس، المكنى بـ”أبو إدريس”، رئيس الدعوة السلفية في الإسكندرية، ليخرج بعدها ياسر برهامي مؤكداً أنها “بيعة” على البر والتقوى. غالبية قيادات وأمراء “المفاصلة الشعورية” واعتزال المجتمع، سيطرت على عقلياتهم الذهنية وسجاحاتهم النفسية، فكرة الاصطفاء، وأنهم لم يخلقوا مما خلق الله منه البشر، وأنهم مختارون لخلافة الله في أرضه، وأن تنصيبهم لم يكن عشوائياً ولا ارتجالياً، بل كان قدرياً من فوق سبع سماوات، فمن خلال “البيعة”، تجلّت بذواتهم نزاعات التعالي واستعباد الآخرين وسيادتهم.