السبت. نوفمبر 16th, 2024

‏إدريس آيات- قسم العلوم السياسية- جامعة الكويت‏

‏في نهار 26 فبراير المنصرم، أعلن الوزير التشادي السابق، وممثل البلاد لدى المجموعة الاقتصادية والنقدية لوسط أفريقيا مؤخرا “سيماك “، يحيى ديلو جيرو بيتشي (ديلو)؛ إعلانه الترشّح للانتخابات الرئاسية القادمة، والمحددّة لتاريخ 11 أبريل 2021، كمعارضٍ ضدّ رئيس البلاد، الذي ترشّح لولاية سادسة، ويحكم البلاد منذ 2 ديسمبر 1990م.

‏بعد 48 ساعة، أي مساء الأحد 28 فبراير، تحديداً الساعة الخامسة (و14 دقيقة) اقتحمت قوات الأمن التشادية بالدبابات منزل ديلو، واندلعت بين الأمن وأنصار ديلو اشتباكات عنيفة، عقب ما تصدّى مدنيون وأفرادٌ من عائلته، للدبابّات التي تحاول اقتحامه في عقر داره.

‏وثقّت مقاطع فديو لمواطنين حاضرين، المجابهة بين المدنيين من أنصاره ضد الدبّابات وَرَشَقهم الشباب بالحجارة. يمكن أيضاً الملاحظة من المقاطع المصورة ذاتها، تحشّد عشرات ‏من جنود الحرس الرئاسي أمام منزل يحيى ديلو.
‏ تجدر الإشارة إلى أنّ ديلو (من إثنية الزغاوة وابن أخت لإدريس ديبي) زعيمٌ سابقٌ لتمرد دموي ضد ديبي في بواكير 2006، قبل أن ينضم إلى حكومته ليصبح وزيراً.

‏يحي ديلو واحدٌ من بين 17 مرشحاً أعلنوا عزمهم منافسة ديبي في انتخابات أبريل القادم. لكن يوم الأربعاء، 3 مارس 2021، صادقتْ المحكمة العليا في تشاد على عشر ملفّات، وألغتْ سبعة. من بين الملغي ملف المعارضين البارزين “الدكتور سوكسيس مسارا/ Succès MASRA” و ” يحيى ديلو جيرو “، هو ديلو نفسه الذي تشابك أنصاره مع قوّات الأمن التشادية. برّرتْ المحكمة رفض ملفّ ترشّحهما على أساس أنّ ” حزبيهما تشكلاّ بطريقة غير قانونية”

في منشورٍ للمعارض ديلو على منصّة فيسبوك، يزعم” أنّ اقتحام 28 فبراير لمنزله أسفر عن مقتل والدته وعددا من أقاربه”. علاوةً على منشوره، أكدّت منظّمات غير حكومية ومعارضون تشاديون -كالمعارض صالح كبزابو، وسوكيس مسارا- سقوط أفرادٍ من أسرته تحت نيران الجيش.

‏بينما يصعب عدم ربط هذا الاقتحام بإعلانه الترّشح ضد الرئيس ديبي- واعتباره “رسالة تحذيرية لبقية المرشحين الجادّين في الانتخابات الرئاسية، إنْ تسوّلت لهم نفوسهم منازعة ديبي العرش” على حد تعبير المعارضة-؛ فقد وجدتْ الحكومة التشادية تبريرها في مزاعم أنّ ديلو رفض تنفيذ أوامر قضائية استدعتْه للتمثيل أمام الشرطة الجنائية، ونظّم من منطلق رفضه تمرداً مسلحاً في وسط العاصمة، انجامينا.

وفقاً للمدّعي العام تم استهداف ديلو، لرفضه الامتثال لدى الشرطة، لشكوين قدّما ضدّه:
‏•1- رفضه إعادة ثلاث سيارات للدولة، بعد نهاية خدمته المجتمعية.
‏•2- التّشهير وسبّ شخصية زوجة رئيس الدولة، “هندة ” ومطالبته الرئيس بإيقاف تدّخلاتها المستمرة في إدارة البلاد عبر مؤسستها ” Grand Cœur” .

تزعمت المؤسسة مثلاً، سياسات مكافحة الفيروس كورونا في تشاد، ضمن أنشطة أخرى عديدة. وانتقدها ديلو مدّعياً أنه، لا هندة ولا مؤسستها خبيرتان في الشؤون الصحيّة، ويجب من الرئيس وضع حدٍ لتسلطّها، فكونها زوجة الرئيس ليس منصباً منتخباً من الشعب، ولا يحقّ لها لا رسم ولا تنفيذ سياسات الدولة العامة. أيضاً، اتهمّها ديلو بالتلاعب بأموال المساعدات التي تلقتها منظمتها من الصحّة وبنك التنمية الدوليين.

إنّهما التهمتان الموجّتان ضدّ ديلو، بناءاً على تصريح المدّعي العام، والمتحدّث باسم الحكومة التشادية، شريف محمد زين. وبحسبهما، فمنذ الاشتباك، هرب ديلو من منزله إلى وجهة غير معلومة. تبع ذلك قطعٌ متقطّع للانترنت في البلاد.

‏هذه التهم- برأيي- لا يمكن وصفهما إلاّ بأنها تهمٌ ” عَبثيّة” إذْ من يستوعب أنّه في دولة مثل تشاد عمّها الفساد لثلاثة عقود في شتّى ‏دوائرها الحكومية، أنْ تُزْعج وزيرٌ سابق على خلفية ثلاث سيارات خدمة، عطفاً على التقاليد السياسية الأفريقية التي لا تحظر انتقاد الرئيس ولا زوجاته اللائي يعتبرن شخصيات سياسية عامة، فتشاد ليست الإمارات الخليجية التي تنصّ دساتيرها على ” أنّ الذّوات الأميرية مصونةٌ لا تمس”وبالامتداد، زوجاتهم أيضاً لا يُمَسن لا بالكلام ولا الأفعال. إضافةً إلى أنّه يتنافى مع الإجراءات القضائية في تشاد إرسال الحرس الرئاسي أو القوّات الأمنية الخاصة مع دبّابات لمجرد رفض استدعاء قضائي، إنها وظيفة الشرطة إجراءات الاعتقال. لا شيء في حدث الاقتحام “طبيعي”.

‏تجدر الإشارة إلى أنّ هندة ديبي خلال الأعوام الماضية، تمتعت -ولا تزال- بحذوةٍ واسعة كونها من الإثنية العربية النافذة في البلاد، ووفقاً للمراقبين المحليين والإقليميين، رغباتها كثيراً ما تلبّى من زوجها إدريس ديبي، حين تهمس في أذنه.

‏مارست هندة حذوتها في تنصيب وزراء ومسؤولين، وإسقاط آخرين. ومؤخراً كانت حلقة وصل بين مرّشح حزب تاريا من جمهورية النيجر محمد بازوم، وبين حزب زوجها “MPS”، ما يفسّر مشاركة أعضاء حزب تاريا في حفل نظمّه حزب “MPS” في فبراير المنصرم وفقاً لمنشور للصحفية النيجرية ” سميرة سابو”. لكن حتى وإن كانت هندة عصبةً مؤثرة في توطيد العلاقات، إلا أنّه وُجدتْ علاقة قديمة بين الحزبين منذ عهد الرئيس النيجري السابق، محمد اسوفو.

‏وحين حاجج ‏إدريس ديبي، توظيفه “الإساءة” للسيدة الأولى هندة، كمبررّ لإقصاء منافسًا جاداً ، كيحيى ديلو من الساحة السياسية التشادية، كان بمثابة وقعة خيانة لدى أفراد الجيش الموالين ل ديلو من إثنية “الزغاوة” التي ينتمي لها، كل من ديلو وديبي.

‏فانشقّ أنصاره من الجيش وانضمّوا له، هذا ما يفسّر التشابك الحاد بين قوّات الأمن -الذين خسروا خمسة من عناصرهم- وبين مناصري ديلو المسلحين.

بعيداً عن الأحداث الراهنة يمكن الإحاطة بالأزمة وتجذّرها في تاريخ الصراع السياسي بين الفرقاء في جمهورية تشاد.

‏•- الجذور السوسيو-اجتماعية للأزمات السياسية في تشاد:

‏ غالباً ما أذهب إلى تحليلاتي أنّ التنافس الإثني (القبلي) في تشاد مشحونٌ سياسياً ولا تمتاز أبداً باستواء الأضداد.

مثلاً، تعيش في تشاد أكثر من 200 إثنية مختلفة، وتتحدث ما يقارب 100 لغة محلية، لكن تجمع الإثنيات كلّها اللغتين الفرنسية والعربية. وأسفر هذا التعدد الإثني عن نتائج ضارّة وحساسة نتيجة بعض الاعتقادات السائدة لدى قبائل الشمال والشرق (مسلمين في الأغلب) التي ترى ب ” النقاء العرقي” و” التراتبية الإثنية الطبيعية” من الشماليين على القبائل (الوثنية والتي أمست نصرانية في الأكثرية) الواقعة جنوب البلاد. وترسخّت هذه الافتراضات حقبة ما بعد الاستعمار على أنّها تقسيمات طبيعية لدى المجتمع التشادي، حيث كان الشماليون والشرقيون غزاةً حاربوا الاستعمار، بينما الجنوبي قَبِلَ دين المستعمر الفرنسي ولغته لاحقاً.

هذا المدخل العام ضروري لفهم توازن القوى السياسية بين الشمال والجنوب، وبين إثنيات الشمال نفسها. استغلّت هذا التعقيد الاجتماعي الدول المجاورة لتشاد. للسودان الجار الشرقي لتشاد تاريخٌ ممتد من التدّخل في الشؤون التشادية، ومن جهة الشمال تدخلت ليبيا معمّر القذّافي مرّاتٍ عديدة، ومن الجنوب أضحت الحدود التشادية الأفرو-وسطية سراباً لفرط الترابط الاجتماعي بين الجماعتين. ولدى كل من النيجر، الجارة من الشمال الغربي، والكاميرون، الجنوب الغربي تواريخ تشابكاتٍ مع الأحداث الداخلية لتشاد. ولا ننسى فرنسا إبّان الاستقلال فقد لعبتْ على هذه التباينات أيضاً.

فرنسا وحبال الإثنية:

نتيجة قبول الجنوبي دين المستعمر ولغته، حظي الجنوبيون برضا المستعمر الفرنسي، وفي أعقاب استقلال تشاد يوم 11 أغسطس 1960م، سلّمت فرنسا السلطة للجنوبي ” فرانسوا تومبالباي ” من إثنية ” سارا” التي تمثّل تقريباً 26٪؜ من المجتمع التشادي.

لاحقاً سينزع الشماليون السلطة عبر تكتيك سياسي-عسكري غاية في الحنكة، وتدعمه -هنا أيضاً- فرنسا، ما سيؤدي إلى ولادة شخصية عسكرية أولاً ثم سياسية ثانياً سيحكم خلال 30 سنة بالنار والحديد، يُدعى ” إدريس ديبي إتنو” ………