السبت. نوفمبر 16th, 2024

الجزائر-14-01-2023
كتب محمد مسلم بجريدة(الشروق) الجزائرية،أمس الجمعة تحت عنوان:
“ماكرون.. خطوتان إلى الوراء”، جاء فيه:

حكم الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، بالفشل على اللجنة المختلطة لبحث ملف الذاكرة، التي دعا إليها خلال زيارته الأخيرة للجزائر في أوت المنصرم، بعد التصريحات التي تضمنها الحوار الذي خص به مجلة “لوبوان” الفرنسية ، والتي رفض من خلالها التجاوب مع مطالب جزائرية لا يمكن التنازل عنها.
وللمرة الألف يمكن الجزم بأن الرئيس الفرنسي مشوش ومضطرب وغير قادر على التعامل مع ملف جد حساس مثل ملف الذاكرة ، فمرة يقفز خطوة إلى الأمام، ومرة أخرى يعود ويقفز خطوتين إلى الوراء، في مشهد أفقده الثقة والأهلية، كشريك فعال يمكن التعويل عليه في الذهاب بعيدا في مشروع حساس، كان هو دوما المبادر به.
في العام 2017 وبينما كان الرئيس الفرنسي مجرد مشروع رئيس، زار الجزائر وقابل وجهاءها، وتجول في العاصمة وزار أزقتها العتيقة، ثم خرج بملء فيه، يصف الاستعمار الفرنسي للجزائر بأنه “جريمة ضد الإنسانية”، ومباشرة بعد عودته إلى بلاده وجد اليمين الفرنسي المتطرف في انتظاره بمظاهرات رافضة لتصريحه، فما كان منه إلا أن عاد عن أقواله.
المشهد ذاته يتكرر بعد نحو ست سنوات، ففي شهر أوت المنصرم، زار ماكرون الجزائر ووافق على شروط الرئيس عبد المجيد تبون ببحث ملف الذاكرة منذ بداية الاحتلال في العام 1830 حتى الاستقلال في 1962 وليس سنوات الثورة فقط، ثم بعد نحو شهرين من انطلاق اللجنة المختلطة في عملها، خرج سيد قصر الإيليزي مجددا، ليقيّد عمل هذه اللجنة برفضه تقديم الاعتذار، في حين أنه كان يقول إن هذا الملف هو ملف مؤرخين وليس سياسيين.
وفي حواره لمجلة ““لوبوان”، قال ماكرون إنه “لن يطلب الاعتذار من الجزائريين عن الاستعمار الفرنسي”، مقدما تبريرا لا يمكن لأحد أن يستسيغه لأن الاعتذار برأيه، يجعل كل طرف يسير في طريقه، وهو توصيف لا يستقيم على جميع الأصعدة، والأمثلة على ذلك شاهدة مع فرنسا ذاتها.
فالعلاقات الألمانية الفرنسية عاشت ولا تزال أزهى فتراتها منذ اعتذار برلين لباريس عن اجتياح عابر لم يتعد بضع سنوات، كما أن فرنسا اعتذرت لجمهورية مدغشقر عن استعمارها لها، ولكن عندما يتعلق الأمر باحتلال فرنسا البغيض للجزائر الذي امتد لقرن و32 سنة، ورافقته تصفية عرقية ووحشية منقطعة النظير أودت بحياة ما يناهز سبعة ملايين شهيد، يصبح الاعتذار خطا أحمر.. يا له من منطق!..
من بين المبررات التي ساقها ماكرون لموقفه هذا، أن “العمل على الذاكرة والتاريخ يعني الاعتراف بأن في طيّات ذلك أمورًا لا توصف، أمورا لا تُفهم، أمورا لا تبرهن، أمورا ربما لا تغتفر”، ومع ذلك، فما بدر منه لا يتعدى خطوات رمزية لا تقدم ولا تؤخر في شيء، من قبيل الاعتراف بقتل مناضل على يد جيش الاحتلال خارج القانون. نعم.. هذه الخطوات مهمة، ولكنها لا ترقى إلى مستوى الاعتراف بجرائم النابالم والإشعاعات النووية والتقتيل الجماعي بالسموم الكيمياوية وإبادة قبائل بأكملها، وهي جرائم تفوق الخيال البشري.
بعد كل الذي حدث، يبدو أن ماكرون هدم كل ما بناه منذ الصائفة المنصرمة، وبات من الصعوبة بمكان الثقة فيه مستقبلا، في بناء علاقات ودية وندية، ببساطة لأن الرجل سريع التأثر بما يدور حوله، وإلا كيف اختار ماكرون الإدلاء بهذه التصريحات، بعد أقل من أسبوع من الحوار الذي أدلى به السفير الفرنسي السابق بالجزائر، كسافيي درانكور، وهاجم بشدة سياسة الإيليزي في التعاطي مع الجزائر من خلال صحيفة “لوفيغارو” اليمينية.. إن الموقف يتشابه إلى حد بعيد مع تصريحه الشهير في الجزائر في 2017، ثم تراجعه بعد مظاهرات اليمين في تولون بجنوب فرنسا بعد عودته مباشرة إلى بلاده.
هل يمكن القول إن ماكرون رسب في اختبار إعادة تطبيع العلاقات مع الجزائر؟ وهل يمكن القول إن تصريحه الأخير حكم بالفشل على مهمة اللجنة المختلطة لبحث ملف الذاكرة؟ الإجابة لا تحتاج إلى عناء تفكير، بل يمكن القول إن جرة الثقة بين البلدين في حل مشكلة الذاكرة سوف لن تسلم هذه المرة، ما لم يبادر نزيل قصر الإليزيه بتقويم اعوجاجه بقرارات سياسية فورية لا تحتاج المزيد من الانتظار، لأن الأزمة استفحلت ومن الصعوبة بمكان تجاوزها، فالجزائريون غير مستعدين لتقبل مواقف غير مسؤولة، مبنية على مراعاة التناقضات في الدولة العميقة بفرنسا.. ماكرون يدرك جيدا ما يتعين عليه فعله