اعداد: سارة الزنطور – باحثة متربّصة بالمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس
يشهد السودان تحركات إقليمية ودولية لاحتواء الأزمة السياسية المتفاقمة عقب تواصل سلسلة الانقلابات العسكرية والتنافس بين المدنيين والعسكريين، فمنذ الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، يتصدر المشهد الميداني احتجاجات شعبية مستمرة ردا على إجراءات استثنائية اتخذها قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وُصفت بالانقلاب العسكري وفقأطروحة المتظاهرين المطالبين بعودة الحكم المدني الديمقراطي والنأي بالمؤسسة العسكرية عن السياسة.
خوفا من تصاعد التوترات الأمنية وارتدادات الأزمة السودانية، تضافرت جهود داخلية
وخارجية لبعث حوار مباشر يجمع المكون العسكري والمدني انطلق الأربعاء 8 يونيو الجاري بالعاصمة السودانية الخرطوم، وهو حوار سوداني-سوداني برعاية من الآلية الثلاثية لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء السودانيين بغية إيجاد حل لأزمتهم.
فما هي الآلية الثلاثية المشتركة وما هي أهدافها ؟
الآلية الثلاثية المشتركة
تضم الآلية الثلاثية المشتركة كل من الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية “الإيغاد” (IGAD) وبعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان “يونيتامس”، وتهدف من وراء تشكلها إلى بعث عملية سياسية تنتهي إلى حوار سياسي بين الأطراف السودانية للتوصل لحل الأزمة السياسية بالبلاد واستعادة الحكم المدني الديمقراطي وذلك عبر وضع أربعة مسارات للحوار في السودان تمثّل الرّكائز الأساسية التي من شأنها أن تكون الأرضية الخصبة للحوار وكانت كالتالي: الترتيبات الدستورية وتحديد معايير لاختيار رئيس الحكومة والوزراء وبلورة برنامج للتصدي للاحتياجات العاجلةوضع خارطة طريق لتنظيم انتخابات حرة ونزيهة.
ولكن على الرّغم من دعوة الآلية الفرقاء السودانيين إلى العمل من أجل إنجاح محادثات لصالح الشعب السوداني والدّعم الدولي الكبير لم تكن طريق الحوار سالكة، حيث واجهت خلالها الآلية إشكاليات أبرزها ظهور العديد من التّحفظات لدى أطراف فاعلة في المشهد السياسي ولجان المقاومة في الشارع السوداني الرّافضة للتفاوض مع الجيش أدّت إلى تأجيل انطلاق الحوار الذي كان من المقرّر انطلاقه بداية مايوتعقيدات وتحديات حلّت دون الجهود الدولية لحل الأزمة وقلّلت من فرص نجاحها ونجاح الحوار وأنبأت بفشله في شكله الحالي.
ماهي التحديات أمام الحوار الذي ترعاه “الآلية الثلاثية” بين فرقاء السودان؟
التحديات الداخلية
في الوقت الذي حظيت فيه المبادرة الأممية بترحيب دولي وإقليمي استجابت أغلب القوى السياسية للحوار بواسطة الآلية الثلاثية، فإن العديد من القوى التي تقود الحراك في الشارع السوداني على غرار “الحرية والتغيير”، اللّجنة المركزية “قحت”، والحزب الشيوعي، وبعض الأحزاب الرئيسية ما تزال ترفض الجلوس إلى طاولة الحوار معتبرة أن في مفاوضات الآلية تطبيع مع الانقلاب العسكري وتمنح العسكر المزيد من الوقت، كما يعود سبب الرفض أيضا إلى عدم إطلاق سراح المعتقلين السياسيين ومعتقلي الرأي واستمرار العنف ضد المتظاهرين الذين لا يزالون يملئون الشوارع رفضا للانقلاب والسلطة العسكرية.
بعد أخذ وردٍ طال لأكثر من سته أشهر، استطاعت بعثة الأمم المتحدة لدعم الانتقال الديمقراطي في السودان وشركائها جمع بعض القوى السياسية حول طاولة واحدة حيث شارك في الجلسة الافتتاحية التي انطلقت قبل يومين التوافق الوطني والمكوّن العسكري الذي دعا إلى حوار يضع مصلحة البلاد على رأس أولوياته ويرى في الحوار السبيل الوحيد لحل الأزمة السودانية دون إقصاء مع التزامه في المقابل بتنفيذ مخرجات الحوار، إلا أنه وعلى العكس من كل التوقعات غابت قوى المعارضة وظلت مرابضه في شوارع العاصمة معتبرة أن تنحي العسكر هو الشرط الأساسي لكل حوار ممكن. الأمر الذي راكممن أزمة التعطل السياسي وجعل من الحوار أعرج وتدور خطواته على رمال متحركة، وذلك بعد عزم السلطة العسكرية الحاكمة في السودان على المضي قدما في هذا الحوار بمن حضر، ويعود ذلك إلى دعوة رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان للأحزاب والقوى المشاركة في “حوار الآلية” ومزيد تأكيده في كلمته أن “الحوار الذي يبدأ غدا فرصة تاريخية لإكمال المرحلة الانتقالية وهو فرصة غير مسبوقة للقوى الرافضة للاستجابة للحوار وغض النظر عن القبلية والجهوية لأجل صالح البلاد”.
غير أن أطراف سياسية أخرى قاطعت هذه الجلسة وأبرزها قوى الحرية والتغيير-مجموعة المجلس المركزي التي أطاح الجيش السوداني حكومتها في الخامس والعشرين من أكتوبر الماضي، إلى جانب تجمع المهنيين السودانيين ولجان المقاومة والحزب الشيوعي، أما خارج الغرفة المغلقة للحوار فتقود لجان المقاومة مظاهرات في الشارع تطالب بتسليم السلطة للمدنيين وعودة الجيش إلى الثكنات معتبرة أن لا جدوى من المبادرات التي تدعو للتفاوض مع الجيش في حين أن متطلبات الشارع السوداني تكمن في تصحيح مسار الثورة وإعادة تشكيل حكومة الفترة الانتقالية.
وأقرّت الآلية الثلاثية في بيان لها بأنه “من غير الممكن نجاح الحوار في الوصول إلى اتفاق لحل الأزمة في ظل غياب قوى الثورة الرئيسية التي قاطعت جلسة الانطلاق الأولى”
وأوضح البيان أن “القوى المتغيبة تمثل أصحاب مصلحة رئيسيين في العملية السياسية، من أجل الانتقال الديمقراطي في السودان”، مضيفا: “لن تكون العملية مجدية دون مشاركتهم، وسنستمر بالانخراط معهم لضمان مشاركتهم”
في ظل هذه التطورات، تظل آفاق الحوار معتمة وتظل معها الأزمة السياسية السودانية عنوانا لحالة تجاذب مستعص، ولا يبدو أن أي طاولة حوار بشكلها المطروح من شأنها إيجاد مخرجات ممكنة قد يعول عليها لإعادة ترتيب الشراكة بين المكونين العسكري والمدني، ناهيك عن تطور ثقافته الاحتجاجية من التظاهر إلى العصيان المدني، بمعنى أن ليس هناك مجال للجلوس على طاولة الحوار إذا ما اعتبرنا أن العصيان المدني هو التعبير الأكثر رفضا للحوار وللوضع الراهن في السودان، وإذا ما اعتبرنا أيضا أن المجلس العسكري تحركه خلفية فكرية تسعى إلى تكريس الشريعة الإسلامية كمصدر لكل تشريع ممكن، وهو ما أكده الفريق شمس الدين كباشي المتحدث باسم المجلس “رأينا أن تكون الشريعة الإسلامية والأعراف والتقاليد في جمهورية السودان هي مصدر التشريع.”
لا يمكن الحديث عن هذا المنعرج السياسي في تاريخ السودان المعاصر دون الحديث عن تحدياته الإقليمية وتداعياتها على الداخل السوداني.
التحديات الخارجية:
لم تكن السودان يوما معزولة عن القوى الإقليمية والدولية، ويعود ذلك إلى تفكّك هياكلها وكل مقومات الدولة في شكلها الحديث والمعاصر، ويعود ذلك إلى الحجم الهائل للمتغيرات السياسية التي طرأت عليها منذ الاستعمار إلى اليوم، فالسودان الذي عايش سبع نسخ من الدساتير والأوامر العسكرية وستة انتخابات تعدديةوثلاث حقب حكم مدنيوثلاثة أنظمة عسكرية وأربع فترات انتقاليةوثلاث حروب أهليةوسبع اتفاقيات للسلام، لا يزال إلى اليوم يعاني التدخلات الخارجية ونتائجها الوخيمة التي حالت دون استقراره السياسي الداخلي والخارجي. وبعيدا عن التهليلات الديبلوماسية بالآلية الثلاثية التي يكذبها الميدان والأرض والمصالح، تتدخل تركيا بشكل سافر في ما يحصل في السودان مستغلة إرثها ووزنها الذي كان لها مع عمر حسن البشير والاتفاقية الممضاة إبان حكمه بإدارة جزيرة سواكن السودانية، على البحر الأحمر وإقامة مشروعات فيها، وتتدخل فرنسا لفتح أفق اقتصادي لها في السودان وجنوبه، من خلال الثلاث نوافذ الرئيسية لثقافتها الاستعمارية، وهي الدعم الاقتصادي والثقافي والعسكري، حيث قدمت فرنسا جملة من الوعود تمثلت في الدعم الاقتصادي للسودان بتقديم منحة مالية غير مشروطة والمساهمة في رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، أما ثقافيا فيتمثل في دعم التعليم ودعم قيم الثورة، في حين عسكريا قال ماكرون أنه سيدعم عملية السلام ووعد بالمساهمة باستقرار السودان. إلا أن المتتبع للنوايا الفرنسية يكتشف أن ما يهم فرنسا ليس نظام الحكم ديمقراطيا كان أو عسكريا بل المصالح الفرنسية في السودان والتي بالإمكان تتبع حيثيات هذا الدعم كالتالي، أن باريس سوف تجني مستعمرة جديدة لضخ الحياة في اقتصادها المأزوم، وستفتح بالتالي المجال لكل الشركات الفرنسية وبالأخص التي تعمل في مجال التنقيب عن المعادن والمنتجات النفطية التي تشكل أهم وارداتهم، وستتمكن من الولوج إلى قارة عذراء في قلب القارة السمراء.
يبدو أن الآلية الثلاثية انطلقت عرجاءخاصّة في ظل غياب قوى المعارضة على طاولة الحوار، ويبدو أن التدخلات الإقليمية والدولية والمصالح الاقتصادية سوف يكونان إذا ما فشل الحوار العاملان الأساسيان وراء مواصلة معاناة السودان الذي بقي طويلا يعاني الجرح منفردا.