الأحد. ديسمبر 22nd, 2024

ناميبيا-15-1-2024

الأرض والذاكرة هما التوأمان اللذان لا يزالان متشابكين بشدة حتى يومنا هذا بالنسبة لشعبي الهيريرو والناما، اللذين يسكنان دولة ناميبيا أقصى جنوبي غربي أفريقيا، وألمانيا الواقعة وسط القارة الأوروبية.

قبل مئة عام بالضبط، شدد الاستعمار الألماني حكمه القاسي على ناميبيا، وكانت عمليات القتل على نطاق واسع جزءا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908، والتي تُعرف اليوم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين، ولكن قصة الاستعمار الألماني بدأت قبل 3 عقود من تلك الحقبة الدامية.

“محميات أفريقيا”

في عام 1884، بعد مؤتمر برلين الذي قسّم الأراضي الأفريقية بين القوى الأوروبية، كانت ناميبيا من نصيب الألمان. بحلول أوائل القرن العشرين، وصل ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني، وحكموا حوالي 250 ألفا من السكان الأصليين الأفارقة. مع نمو السيطرة الألمانية، تضاءلت حقوق وحريات الشعوب الأفريقية بسرعة، وتم طرد الهيريرو والمجموعات الأخرى بشكل منهجي من أراضي أجدادهم، وخصص لهم المستعمرون ما سموها بـ”المحميات”.

تعرّض الأفارقة الذين اعتبر الألمان أنهم انتهكوا القانون، للجلد والشنق في بعض الأحيان، وحتى السجلات الرسمية الألمانية تظهر حالات عديدة من المستوطنين البيض صدرت بحقهم أحكام مخففة لارتكابهم جرائم اغتصاب وقتل. هذه الوحشية المستمرة، إلى جانب قضية الأرض، فجّرت غضبا واستياءً واسعي النطاق بين السكان المحليين.

بحلول عام 1904، ثار الهيريرو بقيادة زعيمهم صمويل ماهريرو ضد الغزاة الاستعماريين الألمان. وفي 12 يناير/كانون الثاني من العام ذاته، هاجم العديد من مقاتليهم بلدة أوكاهانجا، حيث قُتل أكثر من 120 شخصا، معظمهم من الألمان.

سرعان ما نما الصراع، حيث كانت حركة الهيريرو في البداية ناجحة للغاية، إذ اجتاحت المستوطنات الاستعمارية الضعيفة الدفاع، في وقت كافح فيه الألمان لتنظيم دفاعهم تحت قيادة حاكمهم ثيودور فون ليوتوين.

ولكن في يونيو/حزيران من العام ذاته، أطاح به القيصر من قيادة ساحة المعركة، وعين الجنرال لوثار فون تروثا مكانه، فطبّق على الفور سياسة عسكرية “لا للتهدئة بل الإبادة”، سرعان ما أربكت الهيريرو.

https://youtube.com/watch?v=YhG0DWcimZc%3Ffeature%3Doembed

مع بزوغ فجر يوم 11 أغسطس/آب على هضبة ووتربيرغ، استيقظ نحو 50 ألفا أو أكثر من رجال ونساء وأطفال الهيريرو على قصف أكواخهم البسيطة.

اندفع الرجال لقتال الألمان تاركين وراءهم عائلاتهم، فقُتلوا على يد لواء من نحو 6 آلاف مجند ألماني يدعى “شاتزتروب” (Schutztruppe)، وهو الاسم الرسمي للقوات الألمانية في الأراضي الأفريقية لإمبراطوريتها.

وعلى الرغم من قلة الجنود الألمان مقارنة بالمقاومين، فإنهم كانوا يملكون أسلحة متفوقة بما في ذلك مدافع مكسيم الآلية، وسرعان ما دمروا دفاعات الهيريرو.

في وقت مبكر من المعركة، اجتاح مقاتلو الهيريرو مواقع المدفعية الألمانية، لكن الجنرال لوثار فون تروثا أمر بتقديم المدافع الرشاشة إلى الأمام، فدفعت نيرانها السريعة الهيريرو إلى الخلف وقتل الآلاف منهم.

وفرّ الذين نجوا شرقا، من خلال فجوة في الدفاعات الألمانية، إلى صحراء كالاهاري القاسية التي لا تحتوي على مياه والمعروفة باسم “أوماهيكي”، حيث مات عشرات الآلاف عطشا، بينما تم القبض على آخرين ونقلهم إلى معسكرات الاعتقال واستخدامهم في السخرة.

تطهير عرقي

أثناء الرحلة عبر الصحراء، تحولت الحرب الألمانية على الهيريرو إلى سياسة تطهير عرقي متعمدة. إذ أمر الجنرال فون تروثا قواته بإنشاء خط من البؤر الاستيطانية بطول مئات الكيلومترات لمنع الهيريرو من العودة إلى مزارعهم وقراهم المهجورة، وأمر الآخرين بمنعهم من استخدام آبار المياه.

في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1904، بالقرب من منطقة بئر المياه الصحراوي “أوسومبو زو ويندميبا” (Osombo zo Windimbe) النائية، قرأ الجنرال الألماني فون تروثا أمر الإبادة (Vernichtungsbefehl) السيئ السمعة: “أنا الجنرال العظيم للجنود الألمان، أرسل هذه الرسالة إلى الهيريرو. لم يعد الهيريرو رعايا ألمانا.. سيتم إطلاق النار على أي هيريرو يتم العثور عليه داخل الحدود الألمانية بمسدس أو من دون مسدس أو من دون ماشية. لن أقبل بعد الآن النساء والأطفال، سأعيدهم إلى شعبهم أو سأسمح لهم بإطلاق النار عليهم. هذه هي كلماتي لشعب الهيريرو”.

تنقل الهيريرو اليائسون على حافة الموت بحثا عن ملاذ وآبار مياه، ومات عشرات الآلاف منهم. أخيرا، أجبر الغضب السياسي في ألمانيا بسبب هذه الوحشية الاستعمارية القيصر على إرسال تلغراف لفون تروثا لسحب الأمر في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1904.

بحلول أواخر عام 1904، رأى شعب الناما، الذين كان بعضهم متحالفا بشكل ما مع الألمان لحماية أراضيهم، ما يكفي من وحشية الأوروبيين، وخافوا من العداء المتزايد والعنصرية المفتوحة التي يظهرها البيض تجاههم آنذاك. استدعى زعيمهم الكاريزمي هندريك ويتبوي -الذي كان في السبعينيات من عمره- مجلس الشيوخ للاستماع إلى تقارير عن الفظائع.

بعد فترة وجيزة، دعا ويتبوي جميع الناما لمحاربة الألمان. استجاب العديد من العشائر، بما في ذلك تلك التي ينتمي إليها زعيم مشهور آخر هو جاكوب (يعقوب) مورينجا، وانضمت إلى حرب على المستعمرين، وقتلوا رجالا بارزين، لكن تجنبوا النساء والأطفال.

كافح الجنود الألمان ضد الحرارة والعطش والإجهاد المستمر لغارات الناما الصاعقة. كانت هناك حوالي 200 غارة ومناوشة قبل إصابة ويتبوي بجروح قاتلة في أواخر عام 1905 بشظية في إحدى هجماته. توفي بعد 3 أيام، وانهار تحالف الناما.

بعد فترة وجيزة، استسلم المشردون منهم، وأحيط بالناما إلى جانب آخر بقايا الهيريرو الهزيلة للمتبقين على قيد الحياة، وتم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال.

تحمل عائلة إيدا هوفمان -وهي ناشطة في حركة الناما قتل الألمان سلفها- قصة مروعة عبر الأجيال. تقول هوفمان “قتل الألمان أيضا ابنة جدي الأكبر سارة سنو”.

وتضيف للجزيرة “بحسب التاريخ الشفوي الذي تم نقله لأجيال، كانت سنو حاملا وقت مقتلها، وشق الألمان بطنها وأخذوا الطفل وقتلوه بدم بارد”. ولا تزال العائلة تكرّم ذكراها في قبر بالصحراء حيث دفنت.

ويقول أحفاد شهود عيان إنه تم تحويل العديد من الصور العارية (الجنسية) للنساء إلى بطاقات بريدية، وأرسلت إلى ألمانيا. أما أولئك الذين كانوا أقوياء بما فيه الكفاية فنُقلوا للقيام بأعمال السخرة في الميناء والسكك الحديدية المجاورة.

لا أحد يعرف العدد الدقيق لمن تم سجنهم في المعسكرات. السجلات التي توثق ذلك عشوائية أو غير موجودة، لكنها تظهر الآلاف من حالات الوفاة من الهيريرو والناما، أيا ما كان مكان حفظها.

*** للاستخدام الداخلي فقط *** A photo of Jacob Morenga, a leader of the Nama rebellion against German military occupation, taken between 1904 and 1907 [Wikimedia Commons]

كما كانت هناك تجارب أخرى غير إنسانية. عانى العديد من السجناء من الإسقربوط (مرض عوز فيتامين سي)، وحقنهم الأطباء بالأفيون والزرنيخ ومواد أخرى ليروا كيف يمكن أن يؤثروا على مرض ناتج عن نقص الطعام الطازج. فتحوا جثث الذين ماتوا نتيجة لذلك من أجل رؤية آثار هذه التجارب.

وانتهى المطاف بالعديد منهم في معهد القيصر فيلهلم، حيث درس جوزيف مينجيل الذي أجرى لاحقا تجارب طبية مميتة على السجناء في أوشفيتز في أوائل الأربعينيات.

الكتاب الأزرق

ما حدث للشعوب الأفريقية في ناميبيا كان نذيرا وحشيا، وكاد أن يُنسى بمحرقة النازيين ضد اليهود والجماعات الأخرى في الحرب العالمية الثانية.

لكن ذكرى هذه الأحداث موضع خلاف في ناميبيا نفسها. كان أول توثيق حقيقي للإبادة الجماعية في “الكتاب الأزرق” الشهير الذي تم تأليفه وإنتاجه بواسطة سلطات جنوب أفريقيا عام 1918 بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى.

غزا اتحاد جنوب أفريقيا -الذي كان مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت- المستعمرة الألمانية “جنوب غرب أفريقيا” عام 1915 بعد هزيمة مبكرة في بداية الحرب، واجتاح الاتحاد بسرعة القوات الألمانية التي استسلمت في يوليو/تموز من العام نفسه.

ويقدر أن نحو 65 ألفا من الهيريرو من أصل 80 ألفا ماتوا، في حين أن حوالي 10 آلاف من الناما (حوالي نصف السكان) لقوا حتفهم.

يزعم البعض أن هذه الإحصائيات مبالغ فيها، بينما يعتقد نشطاء الهيريرو أن الأرقام كانت أكبر بكثير، ويتساءلون “لكن ما أهمية الأرقام الفعلية؟”، قائلين “كانت الأفعال بحد ذاتها إبادة جماعية”.

بعد ما يقرب من 120 عاما، لا تزال المصالحة بين الألمان من جهة والهيريرو والناما من جهة أخرى بعيدة المنال.

الأمم المتحدة: “إبادة جماعية”

في عام 1985، صنف “تقرير ويتاكر” الصادر عن الأمم المتحدة ما حدث لشعبي الهيريرو والناما بأنه إبادة جماعية. وفي مايو/أيار 2021، اعترفت الحكومة الألمانية نفسها رسميًا بما حدث بأنه إبادة جماعية.

في إعلان مشترك مع ناميبيا، تعهد الألمان بدفع 1.1 مليار يورو للحكومة الناميبية مساعدة خلال أكثر من 30 عامًا، ونص الاتفاق على ضرورة إنفاقها في المناطق التي يعيش فيها الآن أحفاد ضحايا الفظائع.

Station Kubub 1905, in what was then called German Colony Deutsch-Südwestafrika [Wikimedia Commons]

كان هناك الكثير من الاستياء في ناميبيا بشأن الاتفاق المشترك بين الحكومتين الناميبية والألمانية، إلى جانب مطالب من نشطاء الناما والهيريرو بإعادة التفاوض بشأن الاتفاقية، وتوفير المزيد من الأموال للمجتمعات المتضررة، وإشراكهم مباشرة في المناقشات.

في الواقع، لم توقع أي من الحكومتين على الاتفاقية حتى الآن. وأشارت الحكومة الناميبية إلى رغبتها في مزيد من المفاوضات، في حين رفض البرلمان الألماني إجراء المزيد من المحادثات.

يشعر العديد من الهيريرو والناما أن حزب الأغلبية الحكومي “المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا” (سوابو) لا يمثلهم ولا يمثل شعوبهم بشكل كاف، لأن أقوى دعم للحزب الحاكم يأتي من شعب أوفامبو في النصف الشمالي من البلاد. في حين ترى الحكومة أنها تمثل جميع الناميبيين، وأن الاتفاقية لا يمكن تقييدها بموافقة الهيريرو والناما فقط.

يقول فانويل كاباما، أحد كبار المفاوضين في الحكومة الناميبية، للجزيرة إنه في الوقت الحالي هناك “عملية مشاورات داخلية لبناء توافق في الآراء”.

ويؤكد المبعوث الخاص للحكومة الألمانية روبريخت بولينز، في رسالة بالبريد الإلكتروني، أن “الإعلان المشترك تمت مناقشته في ناميبيا منذ مايو/أيار 2021، وغالبا ما يُنظر إليه على أنه مثير للجدل. الحكومة الاتحادية تراقب هذا النقاش وتنتظر النتيجة”.

وفي الذكرى المئوية للإبادة في ناميبيا، رفضت الدولة الأفريقية دعم ألمانيا لموقف إسرائيل في محكمة العدل الدولية حيث تواجه تهمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

وأعربت الرئاسة الناميبية -في بيان لها على موقع إكس أمس السبت- عن قلقها العميق إزاء “القرار الصادم” الذي أصدرته ألمانيا قبل يومين، والذي رفضت فيه لائحة الاتهام الأخلاقية التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.

وأعلنت ألمانيا أنها ستتدخل كطرف ثالث أمام محكمة العدل لدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.

وأشارت ناميبيا إلى ما وصفتها بـ”أول إبادة جماعية” في القرن الـ20 ارتكبتها ألمانيا على الأراضي الناميبية بين عامي 1904 و1908، و”راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف لا إنسانية ووحشية”.

وقالت إن الحكومة الألمانية لم تقم بالتكفير الكامل بعد عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية.

وانتقدت وندهوك تجاهل برلين الوفيات العنيفة التي أدت إلى استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني في قطاع غزة، كما تجاهلت تقارير الأمم المتحدة التي تسلط الضوء على النزوح الداخلي لنحو 85% من المدنيين في غزة، وسط نقص حاد في الغذاء والخدمات الأساسية.

وكررت الرئاسة الناميبية دعوة الرئيس حاجي جينجوب التي أطلقها في نهاية الشهر الماضي قائلا إنه “لا يمكن لأي إنسان محب للسلام أن يتجاهل المذبحة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في غزة”.

وناشد جينجوب الحكومة الألمانية أن تعيد النظر في قرارها غير المناسب بالتدخل كطرف ثالث للدفاع عن “أعمال الإبادة الجماعية” التي ترتكبها إسرائيل، ودعم تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية.

المصدر: وادي السعودية