اعداد قسم البحوث والدراسات الإفريقية
اشراف ومراجعة الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الإستراتجية الأمنية والعسكرية
تشهد القارة الإفريقية موجة جديدة نحو “التحرر” وهناك من يسميها “الاستقلال الثاني أو النهائي”، بعدما شهدت على مدار عقدين، منذ خمسينيات القرن الماضي وما تلاها، الموجة الأولى من النضال لأجل الاستقلال رسميًّا واخراج المستعمر الذي كان يحكمها بقوة السلاح.
وبالنسبة للملاحظين والخبراء الدوليين فإفريقيا هي النموذج المصغر للعالم الذي يشهد نقلة نوعية وموجة تحرر كبيرة من هيمنة القطب الواحد.
لماذا كل هذه الضجّة العالمية حول انقلاب النيجر؟
من بين الأسباب الموضوعية حول انقلاب النيجر ردّة فعل العالم وخاصة الغرب هي كالتالي:
- الغرب كان يعتقد أنه قد وضع يده على النيجر وهو حليف على جميع المستويات ثمّ انها بلد قد تمّ “تقييده” بجميع المستويات كذلك وخاصة بقوة سياسية خاضعة للإليزيه بل أن باريس هي من نصّبت الرئيس والمسؤولين وكلهم تحت إمرتها فتجد في المقابل أن الصحافة الغربية بين عامي 2021 و2022، تشيد بالنيجر على أنّها دولة إفريقية ديمقراطية طبعا فالغرب هم من يعطون الدول “شهادة الديمقراطية” فالدول الخاضعة لإستعمارهم هي “دول ديمقراطية”.
- وبعد الصحوة لشباب النيجر تغير الوضع وتغيرت التسميات لتصبح انقلابا عسكريا ويجب التدخل العسكري وبالتالي من الطبيعي أن تتغير النظرة. يوجد مشروع طموح غربي لربط خطوط الغاز الطبيعي بين إفريقيا وأوروبا عبر الصحراء من نيجيريا إلى الجزائر ثم إلى أوروبا، وبين نيجيريا والجزائر تقع النيجر، وعلى هذا يعتمد مصير تدفق الغاز الذي تحتاج إليه الجزائر، وقبل كل شيء أوروبا وبالتالي تتصدر النيجر الأخبار الغربية وتتلوها موجة كبيرة من الاستياء فلقد تحولت من دولة خاضعة مستعمرة الى دولة حرّة وهذا لا يروق للغرب.
- 3- قلق أمريكي كبير على تواجدها في النيجر وذلك راجع بالأساس الى القاعدة الجوية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في النيجر. هي ليست وحدة جوية كبيرة هي بالأحرى محطة للطائرة بدون طيار، ولكن مع ذلك، يوجد نحو ألف فرد امريكي يعملون فيها، ومن الواضح أن أمريكا تشعر بالكثير من القلق بل لإنها طلبت تأمين هذه النقطة العسكرية الجوية ولا يهمها بما تشعر به فرنسا . ولو نرجع قليلا لما قاله سفير الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة صراحةً: “إن النيجر من أهم حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة” فمن الطبيعي أن نفهم ردّة فعلها على الانقلاب في النيجر.
- الموقع الجغرافي للنيجر مهم جدًّا من وجهة نظر القضايا الأمنية في المنطقة، ليس سرًّا أن الجماعات الجهادية تعمل باستمرار في غرب إفريقيا، وما يحدث في النيجر يؤثرمباشرة في كيفية تطور الوضع في نيجيريا، وتشاد، وبوركينا فاسو، وغيرها من البلدان المجاورة، وهكذا أصبحت النيجر فجأة نقطة محورية للأحداث في القارة.
المطقة ساخنة والقوى الغربية في مأزق:
القوى الغربية وحلفاءها مستعدون لبذل كل الجهود ولفعل أي شيء لتغيير الوضع في النيجر والعمل على إنقلاب آخر لصالحهم، لكن في الوقت نفسه، لا أحد يريد التورط في هذه المواجهة، لأن النتيجة غير واضحة.
كذلك لا ننسى التحولات الكبرى في العالم والهزائم العسكرية التي منيت بها الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية من أفغنستان الى العراق الى سوريا… وبالتالي لم تعد هذه البلدان ترغب في التورط في التدخلات العسكرية بالمناطق الساخنة، لأن كل شيء يبدأ صغيرًا قوات شرطة، أو عملية حفظ سلام، وينتهي بحرب واسعة النطاق.
ويعلم الغرب أن الحرب هي عبارة عن إنفاق ضخم للموارد، والمال، والأفراد، لأجل تحقيق أهداف غير واضحة تمامًا وخاصة غير مضمونة مع موجة الرفض الكبير و”الكره” الشعبي الإفريقي للقوى الغربية.
فرنسا التي تعمدّت تفقير وتجهيل وخاصة سرقة ونهب الموارد الدول الإفريقية التي تسيطر عليها بدأت منذ سنة تقريبا تجني ثمار ما زرعت فكل ما يحدث هو صحوة إقتصادية في أوائل العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، كانت 10 في المئة من حجم التجارة مع إفريقيا لصالح فرنسا، أما الآن فهي أقل من 5 في المئة، في حين أن حصة الصين 17 في المئة وهنا الأرقام تتحدث عن نفسها.
ومن هول الصدمة الإليزيه لا يعترف ولا يزال يكابر فهم لا يزالون ماكثين في نفس الموقف “الأبوي” والوصاية على الدول الإفريقية، كما لو أنهم ليسوا دولا قادرة على تسيير سؤونها الداخلية فالنيجر بالذات فرنسا تعيين من أبسط مسؤول الى أعلى مسؤول في الدولة فهي تعتبرهم “مجرد أطفال يحتاجون إلى الرعاية” لذلك تقول لهم فرنسا سنبقى هنا وهي لا تدرك بأن الأطفال قد كبروا. طبعا يجب أن تدافع فرنسا على “وحشية” مصالحها فلقد اعتادت هذا الوضع، فهي تتلقى موارد رخيصة، وتبيع البضائع إلى إفريقيا، وهو وضع مريح لها، لكن الأفارقة.
لقد تغيرت إفريقيا:
يجب ألا ننسى أن إفريقيا قارة شابة وحيوية جدًّا، وملأى بالشباب، ويتفاعل الشباب مع هذه الأمور بشكل أكثر حدة من كبار السن أو ممن يتمعشون ويعيشون ويتمتعون بالفتات التي تعطيهم فرنسا لهم.
الشباب الإفريقي اليوم يريدون التغيير، ويرون أوضاعًا لا تناسبهم بل أغلبهم يعاني الفقر والتهميش والأمية والأمراض والضروف الإجتماعية الصعبة جدا ففرنسا تعاملهم “كعبيد”، وبالطبع سوف يحتجون وسوف يرفضون الإسنتعمار البغيض الذي جعلهم يعيشون ضمن “مفارقة عجيبة” هم دولة غنية جدا في مواردها الطبيعية وفقيرة جدا على مستوى التنمية بل أنهم في أدنى الترتيب العالمي وهذا راجع للإستعمار الفرنسي ولهذا هذه الطبقات الشابة الإفريقية تخوض اليوم حربا ليس للتغيير إنما نعتبرها حربا للإستقلال “الثاني” أو “التام”.
ردّة فعل المجموعة الإقتصادية لدول غرب إفريقيا
الانقلاب في النيجر كان سببًا في رد الفعل السلبي من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، لأن هذه المجموعة مرتبكة جدا بل قرارها ليس بيدها فهي متحكم فيها من قبل الإليزيه، وهذه المجموعة لا تعرف ما الذي يجب عليها أن تفعله. والآن، تدور مفاوضات هادئة خلف الكواليس، كما يحدثفي الشؤون الدبلوماسية، ومعظمها مغلق ولا أحد يعلم أو يدرك ماذا ستكون ردّة فعلها فالإرتباك الكبير واضح عليها فهي واقعة ما بين مطرقة فرنسا وسندان شعوبها.
تحاول المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا التوصل إلى كيفية بناء علاقات مع الحكومة الجديدة وطبعا بشروطها المملاة من فرنسا. وفي إفريقيا، يعد الانقلاب ناجحًا إذا استمرت الحكومة الجديدة أكثر من أسبوع، لقد استمروا بالفعل أكثر من شهر الآن، مما يعني أن الإكوس مجبرة اليوم على التعامل مع الأمر والواقع وبناء علاقات معهم بطريقة أو بأخرى مثلما كان الشأن تماما مع مالي وبركينافاسو والآن كذلك مع الغابون.
هل فعلا الشركة الأمنية الخاصة “فاغنر” هي وراء الإنقلابات في إفريقيا؟
طبعا يجب التعامل مع هذا السؤال بحذر شديد، فعندما يقال إن شركة فاغنر تعمل في إفريقيا، يجيبون ببساطة: “نحن نقدم المساعدة، بما في ذلك بهذه الطريقة” وقد جاءت هذه الإجابة على لسان قائدة الراحل “يفني بريغدجين”.
والشيء الآخر هو أن شركة فاغنر تعمل بنجاح في جمهورية إفريقيا الوسطى، لكنها، على سبيل المثال، لم تتمكن من العمل في موزمبيق. لقد وصلوا إلى موزمبيق في الوقت المناسب، وفشلوا في القيام بالمهمة وغادروا بعد شهرين، ولهذا لا يمكن صنع “اسطورة” لهذه الشركة تفوق الواقع فالشعوب نفسها هي من تصنع بطولاتها وتحررها وبالتالي لا نستطيع القول أن فاغنر عامل مؤثر في جميع أنحاء إفريقيا كما يدّعي الغرب.
في إفريقيا الوسطى تؤدي فاغنر دورها على أحسن ما يرام، ولكن دعونا لا ننسى أن الشركات العسكرية الخاصة هي أداة وفاعل، لكنها ليست دولة تأتي بمعاهدات واتفاقيات مبرمة، وما إلى ذلك.
ثمّ لو نعود الى أصل الأشياءففاغنر مشروع تجاري وهي شركة عسكرية خاصة تقوم بمهامها وتحمي بعض الأعمال، وتتلقى بالطبع أرباحا، فمنطق الأعمال التجارية بسيط جدًّا: “ما دام العمل مربحا فإنه سيستمر في القيام به، ولكن فور اختفاء المنفعة سوف يغادر”. وبالتالي لا يجب تضخيم شركة فاغنر بهذا الأسلوب وجعلها هي المحرك الأساسي لموجة التحرر الإفريقية بل أنهم الآن يعملون من أجل “الشيطنة ” روسيا والصين وإعتبارهم إستعمار جديد وأن الدول الإفريقية تستبدل إستعمار بإستعمار وهذا طبعا غير صحيح لا من حيث الشكل ولا المضمون.
إفريقيا تتحرر وتواكب التحولات الجيوسياسية واستراتجية العالمية
هناك شيء ما يحدث في إفريقيا الآن وأنظار العالم كلها تتجه اليها وفي نفس الإتجاه كذلك هناك تحولات كبرى في شبه القارة الهندية مثل بنغلاديش، وباكستان، والهند نفسها، وأن الاهتمام سيتحولإلى هناك كذلك، ومن ناحية أخرى، فإننا نشهد الآن ظهور الذاتية ذاتها، هناك إعادة صياغة كبيرة للنظام العالمي.
إنها مثل التحولات التكتونية في منصة الأرض: “نحن لا نراها، يمكننا فقط رؤية العواقب”، وهذه العواقب لا تظهر على الفور بل سيعيشها أبناؤنا وأحفادنا وربما هذا هو الإرث المهم الذي سنتركه لهم.
الخلاصة:
الدول الإفريقية بعد تجربة فاشلة لعقود من الزمن مع الغرب أصبح يوجد طلب كبير جدًّا على مجالات مختلفة من التنمية والمشاريع الاستثمارية والإجتماعية مع دول أخرى مثل الصين وروسيا، وبدأت التجارب الفعلية خاصة مع الصين أين وجدت الدول الإفريقية دولة تحترم سيادتها وتتشارك معها ولا تلعب دور الوصي.
الشعوب الإفريقية اليوم تستفيق وتخوض حرب “الاستقلال التام” وتخرج من العباءة الغربية وتحاول اعادة بناء الشخصية الإفريقية الصحيحة مع شركاء دوليين يشاركونهم ولا ينهبونهم.