لا تقوم العلاقات الدولية على أساس التفاضل وتسامي دول على حساب دول أخرى، ذلك أن سيادة الدول على أراضيها وقراراتها أمر موكول إليها دون غيرها، كما لا يمكن اعتبار جملة من الاتفاقيات ضرب من ضروب الحتميات التي لا يمكن تغييرها ولا هي بالمصير المحتوم، ذلك أن المصالح العليا للدول هي من تحدد علاقاتها الاستراتيجية وتفتح آفاق تنويعها.
ضمن هذا السياق السياسي وانطلاقا من مشهد دولي يعيش تغيرات جوهرية، تطرح اشكالية ضرورة تنويع العلاقات الخارجية التونسية وحتمية تشبيكها بما يتوافق مع مصالحها السياسية والاقتصادية المستقبلية، الأمر الذي يفتح الباب أمام ضرورة الخروج من عباءة الغرب لا بمعنى القطيعة والتأسيس لعلاقات جديدة مع الدول الاقليمية على غرار روسيا والصين وغيرها من الدول التي تأصل لعلاقات دولية تقوم على قاعدة الاحترام والمصالح المشتركة، بل بما يسمح باعادة ترتيب السياسات الخارجية التونسية خاصة في ظل الظغوطات الغربية على السياسات والاقتصاد التونسي.
العلاقات التونسية الغربية ليست مصيرية
يعتبر الانتماء الجغرافي من بين أكثر العوامل المساهمة في تبلور العلاقات بين الدول، ذلك أن ما تحتمه الجغرافيا وما تخلقه من تأثيرات على سياسات الدول الداخلية والخارجية يجعل من هذا المعطى محددااستراتيجيا وأساسيا في ارتسام سياسات الدول، وهو ما أكده نابليون بونبارت في قوله سياسة الدولة تكمن في جغرافيتها.
إلا أن هذا المعطى قد يتحول إلى نقمة عوض أن يكون نعمة، خاصة في ظل غياب حسن التدبر والاستغلال والتوظيف العقلاني الهادف لتحقيق مصالح الدولة الاستراتيجية مع بقية الدول الأخرى، بالاضافة الى ذلك فإن عدم فهم الحكومات لقيمة هذا المعطى خاصة فيما يتعلق بعدم قدرتها على حسم علاقاتها بالارث الاستعماري، الذي لازال الى اليوم يتعامل مع الدول ذات السيادة وكأنها مستعمرات،تحركه في ذلك ثقافة “التعالي” و”السوبرمان النيتشوي”، جعل علاقات العديد من الدول النامية أحادية بل تخضع إلى علاقات هيمنة معلنة وغير معلنة.
ولعل العلاقات الأوروبية التونسية من أهم الأمثلة التي حتمتها الجغرافيا وجعلت من تشبيكها أمرا حتميا، حيث تعددت المصالح الاقتصادية والتجارية في جميع القطاعات وتركزت سبل التعاون في جميع المجالات التربوية منها والثقافية وحولت فكرة الانفتاح إلى محرك أساسي في العلاقات التونسية الأوروبية خاصة في ظل التقارب الجغرافي، إلا أن أهمية هذا المعطى سرعان ما حوله غياب القرار السيادي والفساد السياسي وغياب ثقافة الرؤى والاستراتيجيات الي مطمع لم تتهاون قوى الهيمنة للتعبير عنه في أكثر من محطة، حيث تجلى ذلك خاصة في محاولات فرض نمط من المعاملات يقوم أساسا على الأفضلية الغربيةمن جهة والضغط على الدولة التونسية من جهة أخرى، وجعلت من مجموعة الاتفاقيات الاقتصادية والتجارية التي تحددها القوى الغربية مصيرا لا فكاك منه، ظهر ذلك وبأكثر اسهاب ووضوح في محاولات القوى الاستعمارية التصدي لكل محاولات تنويع الدول النامية شراكاتها مع القوى العالمية الجديدة خاصة في ظل التحولات العالمية اليوم وبروز قوى عالمية جديدة على غرار الصين وروسيا والسعودية اللواتي فتحتا الأبواب أمام أنماط جديدة من العلاقات الدولية تقوم أساسا على المصالح المشتركة والتساوي في السيادة على رغم من فارق القوة ضمن ثقافة جديدة تأصل للتنمية العالمية المستدامة واحترام سيادة الدول وقراراتها السيادية.
ضمن هذا السياق السياسي الدولي الجديد تحاول الدول الغربية الضغط على الدولة التونسية بكل الوسائل السياسية والاقتصادية من أجل المحافظة على مصالحها الاقتصادية القائمة أساسا على نهب مقدرات الشعب التونسي والمحافظة على اتفاقياتها القديمة وعقودها الاقتصادية والتجارية الجديدة المبرمة بعد 2011 وكأنها مصير محتوم على الدولة التونسية يقضي بضرورة عدم تنويعها لعلاقاتها السياسية والاقتصادية التجارية وتجعل من سبل التعاون والشراكة المربحة للدولة التونسية مع الشركاء الجدد هدف صعب المنال، حيث أنه وعلى خلفية الأوضاع الاقتصادية الهشة التي تعيشها الدولة التونسية والتي تقدمت بطلب قرض من صندوق النقد الدولي لتجاوز الأزمة، كشفت الأطراف الأوروبية عن طابعها القمعي والاستبدادي ومحاولات مواصلة الهيمنة على اقتصاد الدولة التونسية وتحديد علاقاتها الاستراتيجية الدولية عبر بحث كل السبل لاغلاق المنافذ أمام توجهها نحو الشرق ومزيد التأصيل لشراكات واعدة، مستغلة بذلك عوامل متعددة تتمثل أساسا في عدم توفر الدولة التونسية على رفاهية الوقت الذي يسمح لها بجولة من المفاوضات والنقاشات مع شركاء جدد في ظل أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة، واستثمارها لمعرفتها بالأوضاع الاقتصادية التونسية وحاجاتها بالتحديد، من أجل المحافظة على المنوال التنموي العالمي والتصدي الى مشروع “قيس سعيد” ومنتسبيه الهادف الى الافلات من قبضة النظام الرأسمالي العالمي والاتجاه إلى نظام اقتصادي يتوافق مع تطلعات الدولة التونسية المتمثلة أساسا في سيادة وطنية فعلية على الأرض والجغرافيا واقتصاد متطور ومتنوع في الآن نفسه خال من كل تبعية وبعيد عن الاكراهات الامبريالية، ليتحول بذلك منطق المصير المحتوم لعلاقات تونس الدولية الاحادية إلى ضرب من ضروب المقولات الجوفاء التي فقدت وجاهتها ضمن العالم الجديد والمعاصر القائم أساسا على التنوع، بما يسمح بالقول بأنه و في صورة ما اذا تراجع حجم الضغوط الغربية على الدولة التونسية فإن الاتجاه نحو الشرق أمر لا مفر منه تفترضه التحولات العالمية ويأسس له انهيار القطب الواحد وتأصل له مصالح الدولة التونسية حاضرا ومستقبلا.
الاتجاه نحو الشرق أمر تقتضيه المصالح العليا للدولة التونسية
تعتبر المصالح العليا للدول من بين أكثر الأهداف التي يجب أن تحققها السياسات الحكومية المتوخات، وترتبط عوامل تحقق هذه المصالح أساسا بجهتين دون غيرهما تقريبا، حيث وإلى جانب السياسات الداخلية التي يجب أن تقوم على خلق الثروة من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي والنماء الاقتصادي بما هما عصبا الأمن القومي وحلقتان من مجموع حلقات تحقق السيادة الوطنية على الجغرافيا والقرارات، فإن للسياسات الخارجية للدول دور هام في تحقيق مصالحا العليا عبر بحث الاستثمارات وأشكال التعاون الاقتصادي والتجاري بما فيه المصالح المشتركة للأطراف المتعاونة، وإذ تهدف السياسة الخارجية لدعم الثقة بين الدول، فهي تقوم أساسا ومن وجهة نظر براغماتية على تنويعالدولة لعلاقاتها مع بقية الدول الأخرى من أجل مزيد تشبيك مصالحها السياسية والاقتصادية والتجارية وعدم الاكتفاء بعلاقات محدودة، إلا أن اللافت ضمن هذا السياق النظري أن العملية لا تجري على هذا النحو، ويعود ذلك لسببين إثنين يتمثل الأول في غياب تصور واضح للسياسات الخارجية وسيطرة النظرة السياسية الأحادية والمحافظة في الان نفسه، التي تهدف أساسا للإبقاء على العلاقات السياسية والاقتصادية والتجارية التقليدية، ويكمن السبب الثاني في الاكراهات التي تواجهها هذه السياسات الخارجية من قبل الدول النافذة والامبرياليات الكلاسيكية التي يمثل الغرب فيها النموذج الأكثر استدعاءً كل ما أثير هذا الموضوع.
داخل هذا الإطار تتنزل السياسة الخارجية للدولة التونسية لبحثها وتجريحها والوقوف على أهم نقائصها والدفع نحو ضرورة اعادة مراجعة توجهاتها خاصة فيما يتعلق بوجوب اعتماد سياسات جديدة في ظل تحولات عالمية تفترضضرورة تنويع علاقات تونس بما يتناسب مع مصالحها العليا.
تقوم السياسة الخارجية للدولة التونسية على نوع من الأصولية في علاقاتها الدولية وخاصة فيما يتعلق بسياساتها الاقتصادية والتجارية مع الغرب والاتحاد الأوروبي وخاصة فرنسا التي تسيطر تقريبا على مجموع الاتفاقيات والعقود المتعلقة بقطاعات حيوية وحياتية على غرار قطاع الطاقة والصناعات الكبرى وغيرها من المجلات التي أثقلت كاهل الاقتصاد الوطني من خلال اتفاقيات جائرة موغلة في التاريخ وازدات جورا خاصة طيلة فترة حكم التوافقات، حيث تم اغراق الاقتصاد الوطني بطريقة ممنهجة لعب فيها الاخوان دورا مهما عبر فتح الباب على مصرعيه أمام كل من تركيا وفرنسا وايطاليا ألمانيا على وجه الخصوص لنهب مقدرات الدولة.
هذا النوع من الأصولية في السياسة الخارجية يعود أساسا إلى الارث الاستعماري الذى لازال الى اليوم يلقي بظلاله على القرارات السياسية والمصالح الاقتصادية للدولة التونسية، حيث يمكن رصد ثلاثة أسباب جوهرية تحول دون انعتاق السياسات الخارجية والداخلية للدولة والتحكم بصفة كلية في قراراتها وخياراتها السيادية، أما السبب الأول فيعود إلى الصدمة الحضارية التي لاتزال سياسة الدولة التونسية تعانيها من خلال مواصلة الاعتقاد في النموذج الديمقراطي الغربي ومحاولة محاكاته كأفضل نماذج الحكم الممكنة على الاطلاق، أما السبب الثاني فيتعلق أساسا بعدم قدرة سياسات الدولة الداخلية والخارجية التنصل من الاتفاقيات والعقود الجائرة التي تم ابرامها منذ الاستعماروجملة التوافقات التي لازالت الى اليوم سارية المفعول ونافذة بطريقة جعلت من الاقتصاد الوطني في تبعية شبه كلية لشركائها التقليديين، في حين يتمثل السبب الثالث، وهو الأهم تقريبا، في الغياب الكلي للقراءات السياسية والجيوستراتيجية للأوضاع الدولية ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، والتي بموجبها كان من الممكن الخروج من حالة التوجس والخوف من الاكراهات السياسية والاقتصادية الغربية، من خلال وضع سياسات ومخططات قادرة على التعامل مع الأوضاع الدولية المتمخضة عن أحداث ومحطات سياسية فارقة في تاريخ السياسة الدولية، عوض الانحناء والخنوع واستجداء الغرب والدخول تحت مظلة الصناديق المانحة والبنك الدولي وصندوق النقد الدولي بما هي الأشكال الجديدة للاستعمار الغير مباشر.
إن ما يثير حفيظة الكثيرين اليوم ويستدعي النقد بالضرورة، هو مواصلة الدولة لنهج نفس السياسات الخارجية المحافظة والأصولية وعدم القدرة على الخروج من عباءة الغرب الاستعماري، في الوقت الذي يمثل فيه ما يحصل في العالم اليوم من تحولات كبرى وانهيار لنظام القطب الواحد وتهاوي صرح السياسة الامبريالية الأمريكية الغربية وسقوط البيترودولار وصعود قوى دولية واقليمية على غرار الصين وروسيا والسعودية وصعود العملات الوطنية كبدائل عن هيمنة الدولار، فرصة أمام الدولة التونسية لتنويع شراكاتها الاقتصادية والتجارية ومصالحها الاستراتيجية مع الشرق أكثر، خاصة وأن التجارب أثبتت أن مردودية ونجاعة هذا التوجه على الاقتصاد الوطني ايجابية وعادلة لما تكرسه من نفع مشترك ومتبادل ضمن تصور سياسي للعلاقات الدولية يقوم أساسا على المصالح المشتركة واحترام سيادة الدول على قراراتها السياسية والسيادية وبعيدا عن كل الاكراهات والضغوطات الاقتصادية كما هو الحال مع الدول الغربية، فما تقدمه التحولات العالمية الكبري اليوم يعد بكل المقاييس الجيوستراتيجية والسياسية الأرضية الخصبة لاعادة مراجعة السياسات الخارجية للدولة التونسية، حيث لا تكمن أهميتها في القطع بصفة راديكالية مع علاقات الدولة التونسية الكلاسيكية، بل أساسا في انتهاج خيارات اقتصادية وسياسية متنوعة ومربحة قادرة على تجاوز الأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة.
لازال مفهوم الحتمية التاريخية الى اليوم مفهوما ذي جدوى هامة، وإن يظهر في الكثير من الأحيان تعارضا مع الخيارات الحرة والمستقلة، الا أن له من الفعالية والمساهمة ما يكفي للقول بأنه حتى وفي صورة عدم وقوف السياسة الخارجية على نقائصها وهاناتها عبر مزيد الدفع نحو تشبيك علاقاتها مع الشرق بما فيه من تحقيق لمصالحها ومصالح شعبها، فإن حتمية الاتجاه نحو الشرق هو أمر تحتمه الأحداث والتحولات العالمية الكبرى وتأكده كل يوم الاتجاهات والخيارات السياسية التي انتهجتها العديد من الدول منذ فترة طويلة.