الأربعاء. ديسمبر 25th, 2024

تأخذ الحرب في السودان يوما بعد يوم طابعا أكثر خطورة, ذلك أن الحرب والنزاع الداخلي المسلح بين القوى المتناحرة يفاقم بشكل غير مسبوق معاناة السودانيين في الداخل ويثير مخاوف دول الجوار من امتدادات الحرب على دولهم على غرار مصر وليبيا في الشمال وأثيوبيا واريتريا وتشاد في الشرق وجنوب السودان المحدث بعد تقسيم السودان إلى شمال وجنوب. ويأخذ طابع الأزمة السياسية في الداخل السوداني منحا أكثر توسعا سيما في ظل تكالب القوى العظمى على وضع موطئ قدم لها ولمصالحها إما لما يتوفر عليه السودان من موارد طبيعية خاصة الذهب وإما للتمركز في مياه البحر الأحمر عسكريا لأغراض تجارية ولوجستية.

الأسباب المباشرة لاندلاع النزاع المسلح في السودان


سبق احتدام الصراع المسلح في الداخل السوداني بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع مناوشات وحرب كلامية وجملة من الاتهامات المتبادلة حول نوايا كلا طرفي النزاع السيطرة على الحكم بعد ان كانا شريكين في الاطاحة بالحكومة المدنية في أكتوبر 2021 , إلا أن ما فجر الصراع فعليا هو الخطة المدعومة دوليا والقاضية بانتقال الحكم إلى القوى المدنية ووضع الجيش وقوات الدعم السريع بعد دمجها في الجيش تحت حكم مدني وفق جدول زمني محدد يتم بمقتضاه تسليم السلطة للقوى المدنية. وقد اتهم الجيش قوات الدعم السريع بالتعبئة غير القانونية وزحفها على مواقع استراتيجية في الخرطوم, كما اتهمت قوات الدعم السريع الجيش بمحاولات الاستفراد بالسلطة. غير أنه لا يمكن الحديث عن الصراع المسلح في السودان دون تحديد المسؤولين المباشرين عن هذه الأزمة وفهم العلاقة بينهما , حيث يتولى عبد الفتاح البرهان قائد الجيش ورئيس مجلس السيادة الحاكم منذ 2019 مهام الجيش والحكم ويتولى والفريق أول محمد حمدان دقلو(حمديتي) نائب البرهان في المجلس الحاكم وقائد قوات الدعم السريع, توحي العلاقة منذ الوهلة الأولى إلى أن هنالك تفاهم وتجانس بين الطرفين سيما وأنهما كانا وراء انقلاب أكتوبر 2021 , إلا أن مزيد تعميق البحث يؤكد أنها علاقة نزاع على السلطة, حيث يظهر ذلك خاصة بعد التحاق “حميديتي” بالقوى المدنية ومغازلتهم والتحالف معهم على غرار قوى الحرية والتغيير من أجل الظهور في حلة رجل الدولة مستقبلا، وهو ما فجر فعليا النزاع بين الجيش وقوات الدعم السريع.


الأزمة الانسانية في السودان في ظل النزاع المسلح


شدة الصراع المسلح في الداخل السوداني خلفت أزمة انسانية كبيرة، سيما في ظل هجرة آلاف الفارين من القتال، ناهيك عن أعداد القتلى من الأبرياء ، حيث بلغ عدد القتلى 730 مدنيا ونزح ما لا يقل عن 1٫3 مليون سوداني عن ديارهم إما إلي خارج الحدود أو إلي مناطق أكثر أمانا… في حين يعاني من بقوا محاصرين وسط القصف المتبادل بين الجيش وقوات الدعم السريع، من انقطاع للكهرباء وشبكات الاتصالات والمياه وغياب الضمانات من الطرفين للتدخلات الانسانية العاجلة لتقديم المساعدات الغذائية واجلاء من هم عالقين إلى اليوم في منازلهم, ناهيك عن عمليات السرقة والعنف وعمليات الاغتصاب, حيث أكدت “وحدة مكافحة العنف ضد المرأة والطفل” أنها تلقت تقارير عن وقوع حالات اعتداء جنسي جماعي وحالات اختطاف في أحياء طرفية في الخرطوم و تعرض النساء والفتيات لخطر الاعتداء الجنسي خلال رحلة بحثهن عن الغذاء والخدمات. في مقابل ذلك أكدت الأمم المتحدة أن الأزمة الانسانية في السودان آخذة في التعاظم وأن على المجتمع الدولي توفير ما يزيد عن ثلاثة مليار دولار لتمويل العمليات الانسانية في السودان والدول التي تأوي الفارين من النزاع المسلح, من جهتها أكدت منظمة اليونسف أنه وفي صورة تواصل الصراع دون توفير ممرات آمنة للاجئي الحرب, سوف تتزايد أعداد القتلى ومعاناة الكثيرين من غياب المأن ومياه الشرب, الأمر الذي قد ينزلق نحو مجاعة الكثيرين خاصة في ظل تعطل حركة الطيران في مطار الخرطوم.
يعاني السودانيون اليوم في ظل تواصل النزاع من انعدام للأمن الغذائي وتعطل كل القطاعات الخدمية من نقل واتصالات وكهرباء ومياه شرب والوقود والغياب الشبه الكلي للخدمات الصحية والارتفاع المشط لأسعار المواد الأساسية.
وحيث أن مخاوف مزيد تعكر الوضع الانساني في الداخل السوداني آخذة في التعاظم، فإن الخوف الاقليمي والدولي وخاصة دول الجوار من ارتدادات الأزمة السودانية يشكل اليوم أمرا غاية في الأهمية سيما في ظل ضبابية مألات الصراع ودخول العديد من الأطراف الدولية على خط الأزمة.

ارتدادات الأزمة السودانية على دول الجوار

مصر: إلى جانب الأعباء التي تتحملها مصر في علاقة بتزايد أعداد الفارين من النزاع المسلح في السودان وحجم الضغط الذي تستدعيه الهجرة الانسانية من اجراءات أمنية واتخاذ التدابير اللازمة في ما يتعلق بتوفير المخيمات والغذاء والمسكن, فإن تداعيات الأزمة السودانية لا تنحصر في هذا البعد فحسب, بل تتصل مباشرة بالأمن المائي للمصريين والذي تتداخل فيه كل من مصر والسودان وأثيوبيا, خاصة في ظل السياسات الاستفزازية التي تنتهجها أثيوبية والتي تستعد للملء الرابع من مياه السد. الأمر الذي يجعل من الاضطرابات في الداخل السوداني وعدم استقرار الحكم يؤثر مباشرة على الأمن المائي والأمني ومن وراءه القومي لمصر, خاصة وأن مثل هذا الوضع المضطرب يأثر على الحدود الجنوبية لمصر ويكلفها مزيدا من الأعباء الأمنية خاصة في ظل تنامي الحركات الارهابية في المنطقة.
ليبيا: تؤثر الأزمة السودانية مباشرة على الأوضاع في ليبيا خاصة في المنطقة الجنوبية الغربية “فزان” وبالأخص في ملف المرتزقة السودانيين المتواجدين في ليبيا والذي كان مخططا لإعادتهم إلى الدولة السودانية عبر التنسيق المشترك بين الدولتين. ويقدر عدد هؤلاء المرتزقة بأكثر من 10 آلاف مرتزق, يمثلون خطرا على ليبيا في صورة اندلاع النزاع في الداخل الليبي وامكانية فرار المرتزقة من السجون وهم خطر أيضا لما يمثلونه في صورة عودتهم في ظل الأزمة في السودان وامكانيتهم للمشاركة في هذا الصراع المسلح, بالإضافة إلى ذلك يمثل ملف الهجرة عبر الحدود إلى ليبيا أحد أهم المخاوف التي قد تأثر مباشرة على الأوضاع السياسة والاقتصادية والأمنية المتأزمة أساسا في ليبيا وقد تحولها إلى معبر حدودي للدول الأوروبية عبر البحر الأبيض المتوسط, ناهيك عن الأعباء الأمنية على الحدود مع السودان و التي قد تتفاقم خاصة في ظل تواجد وتمركز بعض الجماعات الارهابية المسلحة في الجنوب الليبي والتي قد تتسلل للمشاركة في النزاع السوداني وتهدد بالتالي الأمن الليبي, هذا فضلا عن الخوف من تهريب الأسلحة من السودان إلى ليبيا بما يفجر الأوضاع الأمنية في الدولتين وتكون له تأثيرات مباشرة على المنشآت النفطية ويجعلها عرضة للخطر.
التشاد: تأثر الأزمة السودانية في دولة التشاد بصفة مباشرة على جميع المستويات ويعود ذلك بالأساس إلى التشابكات القبلية بين البلدين والحالة الأمنية الهشة وعدم التوافق السياسي داخل تشاد ما يفتح الباب لإمكانية توظيف العوامل القبلية ضمن حروب الوكالة ذات التاريخ الطويل في المنطقة, إذ لا يمكن فصل السياسي والقبلي في بنية الأنظمة السياسية المتعاقبة على دولة تشاد. ويرتبط نظام الحكم في تشاد والذي يترأسه محمد إدريس ديبي الابن مباشرة بالعمق السوداني حيث هنالك علاقات مباشرة مع قبيلة “الزغاوة ” ذات الامتداد في منطقة دارفور السودانية والحاكمة في تشاد. وتتزايد المخاوف في التشاد من فوز قوات الدعم السريع في النزاع المسلح بقيادة “حمديتي” وذلك لما سيكون له من تأثيرات عبر تحويل منطقة دارفور إلى قاعدة انطلاق للمتمردين العرب الذين يتحدون الحكومة في تشاد, حيث تبدو المعادلة العربية، وفقا لمسؤول تشادي،التحدي الأكبر. بالإضافة إلى ذلك فإن التأثيرات الاقتصادية والأمنية وأزمة اللاجئين تأثر بشكل واضح على الأوضاع في تشاد وتزيد من تعميق معاناتها في ظل أزمة إقتصادية خانقة.


الصراع الدولي على المصالح في السودان

لا يمكن عزل النزاع المسلح في السودان بين قوات الجيش وقوات الدعم السريع عن صراع النفوذ بين القوى الدولية على غرار أمريكا وروسيا والصين, ذلك أن العودة الأمريكية على الساحة السودانية ليس بالأمر الذي يمكن ادراجه ضمن السياسات الخارجية الأمريكية التي تقوم على تحقيق المصالح المتبادلة, بل يمكن فهمه على أنه إعادة تموقع لمواجهة التواجد الروسي في مياه البحر الأحمر وفي العمق السوداني, خاصة وأن لروسيا علاقات قوية ما قبل البشير وما بعده ولها مصالح اقتصادية آخذه في التطور بشكل ملحوظ, ناهيك عن المصالح الأمنية والعسكرية التي تربط السودان بروسيا التي كانت رافضة لفكرة انفصال الجنوب فضلا عن التعاون العسكري والأمني والمالي لمواجهة الضغوط الأمريكية. بالإضافة إلى ذلك فإن السعي الأمريكي أو العودة الأمريكية على خط الأزمة السودانية يعود أيضا لمواجهة القوة الاقتصادية الصينية المتمركزة في افريقيا وخاصة في “ايريتريا “. ويعد الموقع الاستراتيجي للسودان واطلالته على البحر الأحمر هدفا استراتيجيا هاما للقوى الدولية المتناحرة وذلك لما يمثله من حلقة وصل هامة بالنظر إلى موقعه في الجزء الشمالي من القارة الافريقية, الأمر الذي يجعلها مدخلا لإفريقيا جنوب الصحراء والبحر الأحمر لما تمتلكه من حدود بحرية بطول 750 كيلومتر على البحر الأحمر.
يبدو أن الصراع الداخلي في السودان سيتواصل إلى زمن غير معلوم سيما في ظل تعنت القوى المتنازعة ودخول القوى الاقليمية على خط النار, ويبدو أن بحث المتنازعين عن أحلاف مع القوى الدولية سوف يزيد من حدة الصراع خاصة في الداخل السوداني ويفاقم الأزمة الانسانية التي لا يبدو أن هناك مساعي لتلافيها, ويظل خوف دول الجوار أمرا مشروعا يفترض منها اتخاذ التدابير والاجراءات الامنية والعسكرية اللازمة لتجنب تداعيات وارتدادات النزاع المسلح على أمنها وأمن شعوبها.