الجمعة. نوفمبر 15th, 2024

تطرح التغيرات المناخيةاليوم وقلة التساقطات المطرية جملة من القضايا على غرار الهجرة المناخية والشح في مياه الشرب ومسالك توزيع المياه و الفلاحة والصناعة والاستهلاك الأدمي، بما يطرح بالنتيجة العديد من المشاكل التي قد تترتب عن تنامي ظاهرة الجفاف والندرة المائية.

لذلك تنتهج الدول جملة من السياسات التي تمكنها من ادارة مواردها المائية بطريقة تسمح بتلافي الانزلاق نحو المخاطر المترتبة عن سوء ادارة هذا المرفق الحياتي.. وحيث أن الدولة التونسية كغيرها من الدول تسعى عبر سياساتها ومخططاتها المديرية واستراتيجياتها الاستشرافية للمحافظة على مواردها المائية الهادفة إلى المحافظة على مواردها المائية, إلا أن هذه السياسات عرفت من الهنات ما يكفي للحديث اليوم عن تهديد حقيقي لأمنها المائي ومن وراءه أمنها القومي وسلمها الاجتماعي تزامن خاصة مع التغيرات المناخية التي يشهدها العالم بما حول موضوع الأمن المائي إلى أولوية قصوى تطرحها العديد من المشاكل المترتبة عن ندرة المياه وقلتها… لهذه الأسباب وغيرها تطرح اليوم العديد من التساؤلات عن مدى ايفاء السياسات المائية في تونس منذ الاستقلال إلى اليوم, إلى شروط المحافظة على موارد الدولة المائية على المديين المتوسطي والبعيد.

هل توجد فعلا سياسات مائية في تونس؟

إلى أي مدى كانت هذه السياسات قادرة على توفير الأمن المائي واستدامته للتونسيين ؟

تعرًّف السياسة المائية عموما على أنها الوصول المستدام على مستوى المجمعات المائية إلى كميات كافية من المياه ذات الجودة المقبولة لضمان وحماية صحة الانسان والنظم البيئية ويتم تعريفها أيضا على أنها السياسة الشاملة التي تنتهجها الدولة للتصدي للعديد من الضغوطات على الامدادات المائية وحسن إدارتها بهدف الحفاظ على ديمومتها واستدامتها وتوفير المياه النظيفة والصالحة للاستعمال الآدمي والفلاحي والصناعي وعديد القطاعات الأخرى عبر توفير البنى التحتية اللازمة لتجميعها والتصدي لكل طرق هدرها.

ولما كان الوضع المائي في تونس كغيره من دول العالم يفترض وضع السياسات والمخططات المديرية والاستراتيجيات للتصرف في الموارد المائية والاستجابة للحاجيات القطاعية على غرار الاستهلاك الآدمي والفلاحي والصناعي، فقد كان للدولة التونسية مقاربات مختلفة في سياساتها المائية انطلقت أساسا من دراسة وضعها المائي منذ إعلان الاستقلال إلى يومنا هذا:

الوضع المائي في تونس منذ الاستقلال

لا يمكن تقييم الوضع المائي في البلاد التونسية دون العودة إلى الطبيعة المناخية التي تتوفر عليها الجغرافيا التونسية، كما لا يمكن تقييم مدى نجاعة السياسات المائية إلا من خلال معرفة الوضع المائي واهم خصائصه…

أ الوضع المناخي

يتميز مناخ البلاد التونسية عموما بالجفاف وبقلة التساقطات المطرية ويعود ذلك بالدرجة الأولى إلى مناخها المتوسطي وموقعها من خطوط العرض وبدرجة ثانية بخصائص الدورة الهوائية العامة التي تحول دون وفرة التساقطات المطرية وبخاصة في فصل الشتاء باعتباره فصل الذروة المطرية.

وتنقسم الجغرافيا التونسية تقريبا إلى شمال ووسط وجنوب, حيث يشهد الشمال بحكم تأثره بمناخ البحر الأبيض المتوسط في فترات الشتاء تساقطات شبه محمودة، في حين أن الوسط وخاصة الجنوب فيغلب على أجواءه المناخية دراجات حرارة عالية تتسبب فيها رياح سيروكو عالية السخونة، بما يجعل الجفاف وندرة التساقطات السمات الجوهرية تقريبا للوسط والجنوب، إلا انه وعلى الرغم من حالة الندرة المائية التي يتوفر عليها مناخ البلاد التونسية فإن حجم التساقطات سنويا يصل إلى ما قيمته 34 مليار متر مكعب من مياه الأمطار، لا تستغل منهم الدولة التونسية إلا ما قيمته 2.7 مليار متر مكعب سنويا مضاف إليها 2.1 مليار متر مكعب من المياه الجوفية القابلة للاستغلال…

أي أن السياسات المائية للدولة التونسية غير قادرة على التحكم إلا في ما قيمته 4.8 مليار متر مكعب من مواردها المائية في السنة.

هذه المعطيات والأرقام مسبوقة بتقييم حجم التساقطات والوضع المناخي للبلاد التونسية مضاف إليها الأحواض المائية والأودية على غرار وادي مجردة ومليان, تفتح الباب حول سياسات الدولة التونسية في المسألة المائية ومدى نجاعتها في حسن استغلال وادارة مواردها المائية وتفتح بالنتيجة القوس أمام مقاربات الدولة المائية منذ الاستقلال إلى اليوم.

ب مقاربة الدولة للمسألة المائية

 الحقبة البورقيبية وسياسة الكفاف

لم تتميز السياسة البورقيبية في المسألة المائية عن سياسات الاستعمار, فكلاهما يتشاركان سياسة تهدف في مجملها إلى تحقيق الحاجيات الظرفية وتحقيق أهداف قصيرة المدى، فالاستعمار كان يعرف أن لا مجال للاستثمارات الكبرى لأن زواله آت لا محالة، وقد انتهجت سياسات دولة ما بعد الاستعمار نفس الطريق ذلك أنها  لم تفكر لا في النمو الديمغرافي ولا في التطور الصناعي والتجاري ولا في التغيرات المناخية وتأثيراتها على الموارد المائية والطبيعية عموما،حيث اكتفت الدولة بالكيفية التي يتم بها تزويد العاصمة والساحل وبعض جهات الجنوب بالماء الصالح للشراب وما تقتضيه الفلاحة والصناعة وبعض الانشطة السياحية… واللافت أيضا في السياسة المائية التي ارتأتها هذه الحقبة أنها اعتمدت إلى حد ما سياسة راهنيه لا تقوم على تصورات واستراتيجيات هادفة للمحافظة على مواردها المائية الطبيعية  وحسن التصرف فيها وإدارتها، بقدر ما كانت تصوراتها ظرفية وقصيرة المدى ولا حسبان فيها للأزمات أو لحالات الجفاف، كما أنها لم ترتكزعلى قراءة مفصلة للأوضاع المناخية التي تتوفر عليها الجغرافيا التونسية.

 وبالعودة على المنجزات التي رافقت السياسات المائية للحقبة البورقيبية سوف نتبين تباعا العديد من الهناة التي يمكن الوقوف عليها، من ذلك السياسة المحدودة للتعبئة المائية حيث لم يتم في فترة الوفرة تلك، تحضير  الهيكلية الضرورية الهادفة للتعبئة القصوى من الموارد المائيةبقدر ما كان الهدف والغاية القصوى هو الاستجابة لحاجيات المدن الكبرى والكفاف لا أكثر، الأمر الذي جعل  منجزاتها مقتصرتا تقريبا على القليل من السدود على غرار سد ملاق( بطاقة استيعاب 267 مليون متر مكعب) و سد بني مطير ( 60 مليون متر مكعب) بالإضافة إلى أنبوب لجلب المياه من سبيطلة إلى صفاقس، مضاف إليها سد نبهانة في الوسط وتحديدا في ولاية القيروان لتزويد كل من ولايتي سوسة والمنستير بالماء الصالح للشراب وبعض الانشطة الفلاحية والزراعية و سدي كساب وبوهرتمة لتزويد العاصمة بالماء الصالح للشراب.

إن هذه الانجازات مقارنة بحجم التساقطات المطرية تظل هزيلة ولا تدل أساسا على تصورات مكتملة لإدارة الموارد المائية وحسن التصرف فيها أو تخزينها أو هيكلتها بما يسمح بتعبأة الموارد المائية السطحية لإقليم الشمال, كما أنها تدل على مواصلة اتباعسياسة الاستعمار للمسألة المائية التي اكتفت حينها بالاستجابة لحاجات المعمرين المتواجدين في أقاليم الساحل والشمال…إلا أنه و منذ ثمانينات القرن الماضي شهدت السياسات المائية للدولة التونسية واستراتيجياتها في ادارة مواردها الطبيعية تحولا جوهريا وسمته منجزات هامة على صعيدي البنية والهيكلة كانت في مجملها نتاج لتصورات ومخططات مديرية تهدف إلى حسن الاستغلال و التصرف والتوزيع، حيث استطاعت سياسة الدولة انطلاقا من أواخر السبعينات وصولا إلى فترة حكم بن علي احكام السيطرة على مواردها المائية على الرغم من العديد من الأخطاء في مجال تعصير الفلاحة والزراعات الكبرى واشكالية استيراد البذور والمشاتل ذات الحاجة المشطة للمياه.

2 حقبة بن علي وسياسة الاستشراف

اعتمدت الدولة فترة حكم بن علي على تصور استشرافي للمسألة المائية تهدف في جوهرها إلى ادارة مواردها المائية بصفة متكاملة وبالتعاون مع كل الفاعلين في هذا المجال، حيث استطاعت الدراسات المختصة للمسألة المائية و المرفقة بالمخططات المديرية وبالإرادة السياسية أن تضع الخطوات التوجيهية والاستراتيجية المستقبلية في القطاع المائي وأن تضع تباعا الأسس العملية للإدارة المتكاملة للمسألة المائية وفق مخطط مكتمل التفكير يقوم أساسا على تقديم مقاربة للتصرف في الموارد المائية والمشاركة المتوازنة للدولة والمشتغلين بقطاع الماء وبالاعتماد على استراتيجية ادارة الطلب بهدف التقليل من حجم المياه المهدورة والمحافظة على  جودتها وتحسين آثارها على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، حيث تميزت سياسة الدولة طيلة تلك  فترة بتقديم تصور استشرافي لإدارة الموارد المائية يقوم على العديد من النقاط المتمثلة تقريبا في :

  1. استمرار تعبئة الموارد المائية.
  2. استخدام قنوات المياه الغير تقليدية ( الفلاحة والاستهلاك الآدمي).
  3. تحسين البنية التحتية الهيدروليكية لتوفير الماه.
  4. ادارة جودة المياه والحفاظ على الموارد وحماية النظم البيئية والبيئة.
  5. التخفيف من آثار الظواهر المناخية على غرار الفيضانات والجفاف.
  6. تحسين أنظمة جمع البيانات والوصول إلى المعلومات من قبل المستخدمين وتطوير نظام معلومات الماء.
  7. وضع الأدوات والآليات التشريعية وتعزيز دور المؤسسات المسؤولة عن ادارة المياه.
  8. البحث عن الأدوات وطرق التمويل المناسبة والمتطابقة مع سياسات الدولة.

انطلاقا من هذه النقاط وبالاعتماد على ضرورة مطابقة النظري بالعملي، استطاعت الدولة منذ الثمانينات إلى حدود 2011 أن تضع جملة من المشاريع التي بها يمكن تحقيق الأمن القومي المائي ومواجهة مخاطر التغيرات المناخية والجفاف، حيث ركزت الدولة العديد من المشاريعالمتمثلة أساسا في  الترفيع في عدد السدود الكبرى والسدود والبحيرات الجبلية والسيطرة على مسالك المياه بهدف تعبئة موارد الدولة من الماء، مواصلة بذلك ما بدأ انجازه وفق المخطط  الخامس للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لسنة 1980 حيث يمكن تسمية هذا المخطط المديري بالمنعرج الهام والرؤية الاستراتيجية الواضحة للدولة والتي أنتجت كل من سد ( سيدي سالم، وسيدي سعد وجومين وغزال) كأحد أهم صروح المحافظة على الموارد المائية للدولة وتعبئتها، إذ بلغت نسبة تعبئة المياه إلى حدود سنة 2000 ما يقارب 80 بالمئة من موارد الدولة، وقد جاءت هذه المخططات مرفقة بما سمي وقتها “التقنيات المائية الصغرى” والتي تهدف إلى مزيد تعبئة الموارد المائية، ناهيك عن الصيانة المستمرة للسدود من التراكمات الطينية للمحافظة على قدرتها الاستيعابية  المخطط لها،كما تمكنت الدولة من خلال الاستثمار في  البحيرات الجبلية الصغيرة أن تحافظ على عدم نزوح السكان إلى المناطق الأكثر كثافة سكانية وذلك عبر توفير مسالك مياه تقليدية للاستهلاك الآدمي والحيواني ( الماشية) والزراعات التقليدية وتجنبت الحاق الضرر بالمجتمعات الريفية وتقنيات ريها التقليدية خاصة في جهات الشمال الغربي .

تميزت هذه الفترة التي امتدت إلى حدود سنة 2012 بجملة من الاستراتيجيات والمخططات التي كان الهدف من وراءها تحقيق الاكتفاء المائي في جميع المجالات مع المحافظة على المخزون الاستراتيجي عملا بثقافة تأصل لأهمية هذا المورد الطبيعي في تحقيق النمو الاقتصادي والمحافظة على السلم الاجتماعي وتجنب الهجرات المناخية خاصة في ظل تغيرات مناخية غير مسبوقة، الا أنه ومنذ العشرية الأخيرة عرفت الدولة التونسية حالة من الاستهتار الحكومي، حيث غابت كل المخططات والاستراتيجيات لمواجهة التغيرات المناخية وقلة التساقطات، بل على العكس من ذلك عاشت الدولة استنزاف شبه ممنهجلموارد الدولة المائية، الأمر الذي جعل من هذه العشرية عشرية الاستنزاف بامتياز.

حقبة الاستنزاف وغياب الدولة في ظل تغيرات مناخية خانقة.

على الرغم من شح التساقطات وقلتها وعلى الرغم من التغيرات المناخية التي يشهدها العالم، بما يبعث حالة من الرهبة داخل المجتمع الدولي وخوف من موجات هجرة مناخية للأماكن التي يتوفر فيها شريان الحياة ( الماء) وعلى الرغم من الحاجة المشطة والملحة لعدم تبذير أي قطرة ماء، إلا أن ما شهدته الدولة التونسية طيلة العشرية الأخيرة يؤكد على الغياب الكلي تقريبا لاستراتيجيات واضحة لتعبئة موارد الدولة من المياه والمحافظة عليها، حيث ساد التهور وغابت العقلانية بشكل شبه تام وغابت معها بذلك الرؤية الواضحة لتعبأة الموارد الضرورية والكافية للاستجابة أولا إلى حاجيات السكان الصحية والاقتصادية والاجتماعية وثانيا للحفظ على السلم المدني وعدم الانزلاق نحو النزاعات والصراعات بسبب ندرة المياهوأدى غياب العقلانية ودور الدولة وهياكلها في استنزاف الموارد المائية وسوء التصرف فيها وذلك عبر توجيهها أو الصمت على استغلالها في قطاعات خدمية غير منتجة للغذاء والثروة العينية شبه الدائمة، ناهيك عن غياب الرقابة خاصة في ما يتعلق بالآبار العشوائية وعدم تعصير طرق الري بما يتلائم مع الموارد المائية للدولة، مضاف اليها استيراد البذور والمشاتل ذات الحاجة الكبرى إلى  المياه وعدم صيانة السدود الكبرى والصغرى والبحيرات الجبلية للمحافظة على طاقة استيعابها المخطط لها سلفا.

هذه العوامل مضاف اليها عدم قدرة الدولة على ايجاد الرؤية والمخطط اللازم والعملي والناجع، جنحت بسياسة الدولة إلى توخي سياسة تصرف مالي ذات طابع عقابي يميل إلى تجريم استعمال الماء من خلال نظام فوترة أو سلة تسعيرات تصاعدية لا تهدف إلى ترشيد استهلاك الماء، بلإلى سياسة زجرية ابتزازية لمن يستعمله عوض اتباع سياسة اتصالية وبيداغوجية تعمل على التحسيس والتوعية بأهمية الاقتصاد في استعمال الماء واتخاذ كل التدابير اللازمة من خلال وضع مخطط قادر على تعبئة موارد الدولة وضمان أمنها القومي في جميع تجلياته.

السياسة المائية في تونس غير قادرة على ضمان الأمن القومي للتونسيين في مجال الماء.

يرتبط الأمن القومي بالضرورة بالأمن المائي، وحيث أن الدولة التونسية لم تتوفر طيلة العشرية الأخيرة على سياسة مائية واضحة قادرة على تعبئة الموارد المائية بما يحفظ سلمها الداخلي وأمنها القومي، فإنه من الضروري الوقوف على النتائج الوخيمة المترتبة عن عدم توفر الأمن المائي على الصعيدين الداخلي والخارجي، أما داخليا فتشهد الدولة التونسية اليوم ارتفاع في نسبة هجرة السكان من الداخل إلى المناطق الساحلية وذلك لتأثر أنشطتهم الفلاحية من تربية ماشية وزراعة وغلاء في سعر الأعلاف المترتب بدوره عن تراجع نسبة الزراعات العلفية والمنتجات الغذائية، بالإضافة إلى ذلك تشهد الدولة تراجع اقتصادي وتأثر واضح للمشاريع المنجزة بنقص المياه المترتب أساسا عن غياب سياسة ناجعة وفعالة وعادلة أدى تقريبا إلى تدمير كل الهياكل المنتجة، فنقص المياه وغياب المخططات المديرية وحسن ادارة الأزمات إلى وضع غير آمن للتونسيين ما ترتب عنه اشكاليات كبيرة على مستوى الانتاج وجميع الانشطة الاقتصادية ما أدى إلى تراجع ملحوظ في نسبة النمو وعجز غير مسبوق لكل الانشطة الاقتصادية وأعاق العديد من مشاريع التنمية، هذه الانزلاقات وإن لم تتخذ الدولة التونسية الاجراءات اللازمة لتفادي حالة التقهقر هذه سوف يؤدي بالدولة إلى حالة من الارباك واللاتوازن والاختلال في علاقاتها الاقليمية والدولية، حيث أن العجز عن توفير الأمن المائي يؤدي إلى العجز عن توفير الأمن الغذائي وهذا الأخير يؤدي إلى التأثير على استقلالية وسيادية القرار الوطني في علاقة بمسائل الدفاع والشؤون الخارجية.