الأربعاء. ديسمبر 25th, 2024

إعداد: منى بوسيف باحثة ومترجمة : قسم البحوث والدّراسات : المركز الدّولي للدراسات الاستراتيجيّة الأمنيّة والعسكريّة

سيناريو عالمي قيد التنفيذ: شعاره “البقاء للأقوى”

إن أحقر السياسات التي يلتجأ إليها حكام العالم وأخطرها على الإطلاق هي حرمان الشعوب من إمدادات الغذاء الأساسية، وقد تم اللجوء إلى هذه السياسة القذرة على المدى الطويل منذ الحرب العالمية الأولى إلى زمننا الرّاهن.

إذ أن منع صادرات الإمدادات الغذائية يُعدّ سلاحا أفتك من الأسلحة النووية، ومن شأنه أن يتسبب في المجاعات التي تساهم بدورها في إبادة الشعوب.

“من يتحكم في إمدادات الغذاء يتحكم في مصير الشعوب”

تجدر الإشارة إلى أن 40% من صادرات الذرة في العالم من الولايات المتحدة، وتُزرَع 30% من صادرات الأرز في الصين كما تنتج كلٌّ من روسيا وأكرانيا 30% من القمح و69% من زيت عباد الشمس في العالم بأسره، وهو ما يجعل العديد من دول العالم تعتمد على هذه الأقطاب من أجل الحصول على الغذاء.

منها نذكر تونس التي تعتمد في ضمان أمنها الغذائي على الاستيراد من الخارج، عبر شراء حوالي ثلثي حاجياتها من الحبوب. وهي تبعية ما فتئت تتعمّق في السنوات الأخيرة خاصة مع تداعيات أزمة كوفيد-19 على كميات الإنتاج العالمي من الحبوب وأسعارها، فلا يغطيّ الإنتاج المحلي للحبوب سوى جزءا ضئيلا من مجمل حاجيات التونسيين والتونسيات.

تعيش تونس اليوم، أزمة غير مسبوقة من “احتكار” و”مضاربة” و”إلغاء الدّعم” و”تعطيل التوزيع”، جميعها عبارات اجتاحت أروقة الأسواق التونسيّة خلال الآونة الأخيرة، وسط  تنامي المخاوف بتعمق حالة “العسر المالي” التي تشهدها البلاد.

إن “انعدام الأمن الغذائي” هو قطعا، الخطر الدّاهم الحقيقي، والذي سيؤدي حتما إلى بلوغ الأزمة الاقتصاديّة في تونس أشُدّها.

رفوف المتاجر تكاد تكون خاوية تماما، من المواد الأساسيّة المدعومة كالحليب والسكر والقهوة والزبدة والزيت والمشروبات الغازيّة ومؤخرا الماء، وعادة ما يرجع قيس سعيد في تصريحاته أن “التعطيل في توزيع عدد من البضائع هو لغايات سياسية بحتة” وأن النقص “لا يتعلق بالقدرات المالية للدولة بقدر ما يتعلق بمحاولة افتعال الأزمات”.

بينما يقر البعض إنها نتيجة اضطراب سلاسل التوريد وارتفاع الأسعار وكلف النقل على المستوى الدولي تنضوي تحت “تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية “

إلا أن الواقع أعمق من ذلك وأخطر بكثير حسب التقرير الاستراتيجي لمجلس المخابرات الوطني الأمريكي (NIC‏)، الذي يصدر كل أربع سنوات، وهو التقرير السّابع على التوالي تحت عنوان “الاتجاهات العالمية 2040 عالم أكثر تنافسيّة”، وهو بمثابة رؤية استشرافيّة تُحوصل أهم التحولات التي سيشهدها العالم على كافة الأصعدة خلال العقود المقبلة، وهي رؤية أمريكية مخابراتيّة بامتياز، تم التركيز فيها على ثلاثة محاور أساسيّة:

الأول، القوى الهيكلية الأساسية المشكِّلة للعالم وهي التركيبة السكانية (الديموغرافيا)، والبيئة، والاقتصاد، والتكنولوجيا.

والثاني، تفاعل هذه القوى الهيكلية مع عوامل أخرى للتأثير في الديناميكيات الناشئة على مستوى الأفراد والمجتمع والدول والنظام الدولي.

ثالثاً وأخيراً، يضع التقرير خمسة سيناريوهات مستقبلية محتملة للعالم في عام 2040.

إن ما يحدث في تونس اليوم هو تجسيد لهذه الرؤية الاستشرافيّة، و لهذه الغايات الدّفينة والخطط الاستراتيجية التي لم نعد بمنأى عنها بل باتت جليّة للعيان.

سيناريوهات 2040 المرتقبة: من تقرير المجلس الوطني الاستخباراتي الأمريكي “العالم في أفق 2040”

لا شيء يحدث عبثا، أو من باب الصدفة، جميعها خطط مُحكمة ومدروسة مُسبقا:

ما يحدث في تونس اليوم من شحّ في المواد الغذائيّة هو جزء من خطّة أكبر بكثير تشمل العالم أجمع، مخطط يهدف إلى تقسيم الدول وتشظيتها، إذ إن أكبر أخطاء اتفاقيّة سايكس بيكو، من وجهة نظر أمريكيّة “ترك دول عربية قادرة على انتاج حالة من الاكتفاء و التطوير الذاتي.”

الغذاء: سلاحٍ إمبريالي وأسلوب حرب

إن عمليّات التفكيك والتجزئة التي تشهدها بعض الأقطار العربية في الزمن الرّاهن هي دون شكّ جزء من ظاهرة عالميّة في طور التجلّي، سلاحها الأساسي “تجويع الشعوب” الممتدّة منذ السّنين الخوالي، عندما احتجزت الولايات المتحدة مساعدات غذائية متجهة إلى تشيلي، التي لم تكن تنتج بصورةٍ مستقلة ما يكفيها من الغذاء لإطعام سكانها وكان قطع صادرات الغذاء جزءًا من محاولة الولايات المتحدة دعم انقلابٍ أطاح حكومة سيلفادور آيندي اليسارية في البلاد آنذاك.

وهذه السياسة واضحةً بجلاء في السودان، البلد الذي كان في الماضي حليفًا رئيسيًا للولايات المتحدة في شرق إفريقيا. في العام 1983، نشبت حربٌ أهلية بين القوات الحكومية وجيش التحرير الشعبي السوداني تولَّى إثرها عمر البشير الرئاسة، فأعلنت الحكومة الأمريكية أنها لن ترسل مساعداتٍ غذائية بعد إطاحة حكومة مُنتَخَبة ديمقراطيًا بانقلابٍ عسكري. طلبت الحكومة السودانية مساعداتٍ غذائية بقيمة 150 مليون دولار في 1990، فرفضت الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية الطلب.   

تلتها ثورات الخبز المتتالية التي اجتاحت البلاد العربيّة:

إن فرض الرأسمالية القيود على حركة الغذاء من أجل التسبُّب في المجاعات، وسوء التغذية، وحتى الإبادة الجماعية، صار أقرب إلى أن يكون أمرًا دائمًا في العقود الأخيرة.

فالإحصاءات تنذر بكارثة فيما يتعلق بهذا السلاح المدمر، فعدد الجياع في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تحديدًا بلغ 69 مليون شخص عام 2020، ومن المتوقع أن يستمر هذا الرقم في الارتفاع، مع الوضع في الاعتبار زيادة عدد الجوعى في المنطقة العربية خلال العقدين الماضيين بنسبة 91%، بحسب تقرير لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو).

وعالميًا تشير التقارير إلى معاناة نحو 811 مليون شخص من الجوع حول العالم، فيما يقبع أكثر من 41 مليون شخص على قوائم انتظار الموت جوعًا.

وهي سياسة قذرة تهدف لتضليل الشعوب و منعهم من التفكير عبر إلهائهم وتشتيتهم بهدف إذلالهم وتركيعهم وإخضاعهم واستعبادهم.

تشييد إمبراطوريّة العولمة:

نظام عالمي جديد:

العولمة الرّاهنة تدعي أنها ليست ايديولوجيا ولا حتى نظاما، لكنها كذلك في الواقع بسبب تقديسها الشديد للأقانيم الكبرى الثلاثة للرأسمالية: “اليد الخفيّة للسوق” والتجارة الحرّة والفرديّة المطلقة. إنها قوى وشبكات قوى تعد الكرة الأرضيّة كلّها مجال عملها، وهي تضع السلطتين السياسية والاقتصاديّة في آن مباشرة في يد الرأسماليّة.

ومنها ولدت العولمة و مصطلح “إمبراطوريّة العولمة” السّلطة السّيادية الجديدة التي ستحكم العالم وتتولى مهمة المبادلات الاقتصاديّة والثقافية العالميّة.

نظريّة اليد الخفيّة:

وهو مصطلح ابتكره مفكر عصر التنوير، الاقتصادي آدم سميث يشرح فيها أن العائد العام للمجتمع هو مجموع عوائد الأفراد. فعندما يزيد العائد الشخصي لفرد ما، فإنه يساهم في زيادة العائد الإجمالي للمجتمع. وهي القوة الخفيّة التي تتحكم في العرض والطلب في الأسواق دون أي تدخّل حكومي، إذ ترى أن السوق الحرّة أكثر إنتاجية ونموا من السوق المنظمة من قبل الحكومات. ومن سلبياتها أنها توجّه السوق نحو سلع محدّدة دون غيرها يصبح إثرها المستهلك مُسيّرا غير مخيّر.

استراتيجيّة تفكيك الدّول:

توجيه الغضب نحو الدّولة


إن استخدام القوى العظمى للغذاء كسلاح لا يؤدي إلى تجويع الفقراء فحسب، بل من شأنه أن يولّد المقاومة أيضًا واليوم،  مع ارتفاع أسعار الغذاء، من المرجح أن تكون هناك انفجاراتٌ غاضبة لأولئك الذين يخضعون للتجويع. خلال هذا العام وحده، أشعل ارتفاع أسعار الغذاء احتجاجاتٍ في العديد من بلدان العالم وخاصة النامية منها، هذه المعارك  تغرس في قلوب الشعب الشكّ والضغينة تجاه النظام الذي يحرمهم من أساسيات الحياة.

أن توضع الإمدادات الغذائية في يد الناس، كحل لتجاوز المشكلة  ليست بمهمةً سهلة، بل هي من آليات تفكيك النظام الذي يسمح للنخبة بالاحتكار في توزيع الإمدادات وبالتالي تثير غضب الشعوب التي تمّ استنزافها كالشعب التونسي، وهو ما يؤدي إلى الإنقلابات ضدّ الأنظمة والإحتجاجات  ضدّ ارتفاع أسعار الغذاء وشحّ المواد الغذائيّة الأساسيّة.

إن كتاب “العالم من منظور الوكالة المركزية للاستعلام في أفق 2040″، كتاب استخباراتي بامتياز، يفضح خطط أمريكا الهادفة لضرب كافة مقومات الثقة بين الدولة والمجتمع بدءا من الدول النامية، عبر رفع منسوب المطلبية التي ستواجه بضعف وعجز الدولة في الإيفاء بكل مستلزمات الحياة الكريمة يتم فيها توجيه الغضب نحو الدولة فاتحة المجال لبارونات السوق والمافيات الشركات العابرة للقارات وبورصات الغذاء المنتصبة في عواصم الغرب.

سيتميز المستقبل بمجتمعات متصدعة وهويات هشة وضغوط غير مسبوقة على الهجرة وشيخوخة متسارعة وديون هائلة ونظام دولي مفكك، وفاعلين خصوصيين وحكوميين أقوياء، وثراء عام ولكن سيئ التوزيع، فضلا عن عولمة متواصلة بطريقة فوضوية، وتنافس متزايد بين أميركا والصين، سنوات كلها اضطرابات يمكن استثمارها أمريكيا للضغط على الحكومات عبر عملاء الداخل من فاعلين اقتصاديين وبيادق سياسية مأجورة.

لكن لسائل أن يسأل: لم البدايات دائما من تونس؟

تونس هي رقعة الشطرنج المُثلى لبداية المعركة، أمّ الثورات وأمّ البدايات، تونس معروفة منذ القدم بأنّها قاصمة لظهور الجبّارين، لهذا قال أحد شعراء العصر الوسيط بإفريقية:

فــــكلّ جبار إذا ما طغى

وكان في طغيانه يُـسرف

أرسله الله إلى تونــــس

فكل جبّار بها يُقصــف

تونس التي بلغ عدد الثورات بها في فترة ما بعد الفتح الإسلامي 375 ثورة كما وُثق في كتاب “البيان المُغرب في أخبار الأندلس والمغرب”

فضلا عن موقع تونس استراتيجي الذي  يربط بين القارة الافريقية والقارة الأوروبية والمجتمع التونسي الحداثي الذي يجمع بين الهوية العربية الاسلامية والثقافة الأوروبية المتحررة.
أحداث 14 جانفي 2011 ، حيث كانت أول دولة عربية تندلع فيها شرارة الإطاحة بنظام دام لأكثر من 20 سنة.
أحداث 25 جويلية  2021 المتمثلة في تجميد البرلمان من قبل الرئيس “قيس سعيد”.
ديمقراطية تمثيلية تعددية حزبية 214 حزب.
لقد كانت تونس أكثر نجاحًا من أي بلد عربي آخر منذ عام 2011 في إنشاء المؤسسات والعمليات الديمقراطية.

ناهيك عن عدم وجود انقسامات مذهبية عميقة وحادة فالأغلبية مسلمة مع بعض الأقليات التي لا تواجه مشاكل عقائدية.
كما أن أول إمرأة عربية رئيسة حكومة “نجلاء بودن”
تونس هي دولة رائدة في الحقوق والحريات: منع تعدد الزوجات، تقنين مؤسسة التبني ،إقرار المساواة في الميراث ، نسبة التمدرس للعالية في صفوف للنساء ومنافستهم للرجال في كل المجالات …
المجتمع التونسي ليس بمجتمع عدواني مسلح فلا يعتمد على الأسلحة البيضاء وحمل الأسلحة النارية يخضع لقوانين في حالات استثنائية، فالأمن العام يستأثر به الهيكل الأمني.
فضلا عن استنباط نموذج سياسي تونسي معتبر يدرس في جامعات العلوم السياسية كفكر جديد ذو معايير مغايرة.
والاعتماد على قاعدة المناصفة في تشكيل الحكومات والسلط.

إن الشعب التونسي شعب متعلم مثقف رائد أمام دول العال، ليس هنالك انفصال بين القوميات فيه.
اختيار الكفاءات التونسية في الجامعات الاوروبية و مراكز مهمة “كاختيار فاطمة ميلي عميدا لجامعة في الولايات المتحدة الامريكية”.
تعتبر تونس دولة القانون والمؤسسات اعتمدت على استراتيجية “تطهير القضاء” كما تعتبر من الدول الأولى عربيا في تشريك الشعب في الشأن السياسي وقدمت المبادرة الأولى في “الاستشارة الوطنية” من قبل رئاسة الجمهورية.
كما أن تونس هي النموذج الافريقي في رقمنة الاقتصاد.

كل هذه العوامل والامتيازات جعلت تونس البلد المختار على كافة الأصعدة، نظرا لمناخها السياسي والاقتصادي والاجتماعي الملائم لجميع الخطط والاختبارات والتجارب.

لكن ما تعيشه تونس اليوم يتعدّى حدود البلاد وأقاليمها ورئيسها وحكومتها، إلى آفاق أوسع وأشمل تبلغ حدود الكون.

المراجع:

https://www.aljazeera.net/news/2021/5/6/%D9%84%D9%88%D8%A8%D9%88%D8%A7%D9%86-%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%B3%D9%8A-%D8%A2%D9%8A-%D8%A3%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%A7%D8%AA%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%A7%D9%84%D9%85
https://achahed.com/post/%D8%AA%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%AE-%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%88%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D8%AA%D9%88%D9%86%D8%B3-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%AF-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%AF
https://www.hespress.com/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D9%85%D8%AE%D8%A7%D8%A8%D8%B1%D8%A7%D8%AA%D9%8A-%D8%AE%D9%85%D8%B3%D8%A9-%D8%B3%D9%8A%D9%86%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D9%88%D9%87%D8%A7%D8%AA-%D9%85%D8%AD%D8%AA%D9%85%D9%84-1046863.html