الأحد. نوفمبر 17th, 2024

اعداد : صبرين العجرودي قسم البحوث والدراسات والعلاقات الدولية

مراجعة : الدكتورة بدرة قعلول رئيسة المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الأمنية والعسكرية

تواجه فرنسا معضلة كبرى فيما يتعلقبوضعها في دول الساحل والصحراء، فمن ناحية تتسبب لها مواجهة التنظيمات الارهابية في خسائر مادية وبشرية فادحة، إلى جانب الرأي العام المنادي بانسحاب فرنسا من المنطقة خوفا من مزيد التضرر.

 ومن ناحية اخرى تشكل بعض القوى الدولية الاخرى تهديدا بارزا لنفوذها ومصالحها،فهيتترقب اللحظة المناسبةحتى تهيمن على المشهد في المنطقة وتغطي الفراغ الذي يمكن أن يسببه تراجع الدور العسكري الفرنسي في المنطقة، لذلك تواجه باريس الان معضلة كبرى،حيث تعجز عن تحديد سياسة ثابته تجاه دول الساحل والصحراء تضمن لها مصالحها بصفة مطلقة.

كيف يمكن لفرنسا أن تحدد استراتيجياتها في منطقة الساحل والصحراء  في ظل مختلف المتغيرات الاقليمية والدولية ؟

الساحل و الصحراء … منطقة الازمات

ساهمت العديد من الظروف في خلق جملة من الازمات العميقة في منطقة الساحل والصحراء، فهي تعتبر من أكثر المناطق الهشة في القارة الافريقية التي تعاني من عدم الاستقرار الامني والسياسي حيث لعب ضعف السلط المركزية دورا بالغ الاهمية في تدمير المنطقة اقتصاديا واجتماعيا وجعلها محل أطماع للقوى الخارجية، وتعتبر المنطقة أرضا خصبة وجاذبة للجماعات الارهابية المتطرفة نتيجة سوء الاوضاع الاقتصادية والاجتماعية وتنامي الصراعات الاثنية والازمات الحدودية…

وقد ساهمت الاوضاع في ليبية طيلة السنوات الماضية في زعزعة أمن هذه المنطقة وتسرب الارهابيين وسيطرتهم على عدة مناطق، حيث تنشط جماعة نصرة الاسلام والمسلمين الموالية لتنظيم القاعدة في المغرب الاسلامي خصوصا في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، أين قامت بعديد الهجمات الارهابية والجرائم على غرار الاتجار بالبشر وتجارة المخدرات والكوكايين وغيرها من الممارسات الغير قانونية، وتسعى هذه الجماعة الى كسب التأييد المحلي، لذلك تعتبر من الاهداف البارزة بالنسبة الى فرنسا، أما بوكو حرام فقد تموقعت في حوض بحيرة تشاد وتركزت أنشطتها الارهابية في شمال نيجيريا تحديدا، في ولاية بورنو،وبعض الدول المجاورة الاخرى وهي تشاد والنيجر والكاميرون، أما داعش فتنشط كثيرا في غرب افريقيا خاصة النيجر.

الدور الفرنسي في كبح جماح الارهاب في منطقة الساحل والصحراء

تمكنت فرنسا من خلال تدخلها العسكري من الضغط على التنظيمات الارهابية، موظفة في ذلك قوة “برخان” وقوة  “تاكوبا” بالتعاون مع بعض القوات المحلية، حيث قضت على تنظيم الدولة الاسلامية في الصحراء الكبرى واعتقلت العديد من القياديين.

 لكن ذلك لا يستطيع هزيمة القوة الهائلة للإرهابيين في كامل المنطقة ولا الوقوف حاجزا أمام سرعتها في التحرك والسيطرة على العديد من المناطق الصحراوية المهمشة، كما ساهم تنامي النشاط الارهابي في خلق العديد من الظواهر الاخرى التي لن تزيد الا من توتير الاوضاع، كظاهرة الهجرة الغير نظامية، كما شهد عدد اللاجئين ارتفاعا مهولا في دول الجوار التي تمثل أيضا مرتعا للإرهابيين، لذلك فإن هذه التحركات ساهمت في استقطاب العديد من السكان المحليين حتى يجدو أنفسهم ضمن هذه الجماعات التي توهمهم بتحسين أوضاعهم.

العجز الفرنسي و رفض التواجد العسكري الفرنسي

بعد ما شهدته المنطقة من حروب ضد الارهاب، لم يقع تلقي الجهود الفرنسية بذلك القدر من الترحيب، حيث تعالت عديد الاصوات المحلية الرافضة للوجود العسكري الفرنسي في المنطقة مقرين بأن فرنسا قد خسرت حربها على الارهاب، وأن الاخير قد خرج عن السيطرة، لذلك فإنه ليس هناك من دافع للوجود الفرنسي، ومن الضروري تدخل أطراف دولية اخرى لإخراج المنطقة من وحل ثمانية سنوات تمكنت خلالهم فرنسا من بسط نفوذها والاستيلاء على ثروات دول الساحل والصحراء تحت شعار القضاء على الارهاب، أما فرنسا فقد شدّدت على أن روسيا تقف بصفة واضحة وراء هذه الحملات الداخلية الرافضة لوجودها في المنطقة حتى تتمكن هي الاخرى من السيطرة .

ضعف فرنسا في المنطقة

يعود الوجود العسكري الفرنسي في منطقة الساحل والصحراء منذ عام 2013، حيث فرضت الاوضاع الامنية المتدهورة في المنطقة التدخل العسكري الفرنسي لحماية المصالح وتأمين مناطق النفوذ،فاعتمدت عملية “سيرفال” في شمال مالي بداية عام 2013 لتهدئة الاوضاع في العاصمة باماكو التي كادت أن تستحوذ عليها الجماعات الارهابية.

وفي النصف الثاني من عام 2014 تم الاعتماد على عملية “برخان” التي تقوم بدعم القوات المحلية لدول الساحل والصحراء .

غير أن الجهود الفرنسية في محاربة الارهاب لم تحقق ذلك النجاح المأمول في دول الساحل والصحراء، وقوة “برخان” حققت هزائم عديدة في هجوماتهامنذ عام 2014  جعل الجماعات الارهابية اليوم أكثر قوة وهيمنة من السنوات الفارطة، وذلك ما يبرر الحملات المحلية القائمة ضد الوجود العسكري الفرنسي، بحيث يقع اتهامها بانها وضعت مصالحها كأولوية مقابل استهتارها في ضمان الامن والاستقرار.

كما تسعى فرنسا الى إعادة بناء وجودها في منطقة الساحل والصحراء واعتماد استراتيجيات جديدة في محاربة الارهاب، لا تكبّدها أية خسائر اخرى وتضمن لها مصالحها في المنطقة،وتؤمن نفوذها،حيث أعلن ماكرون خلال القمة الافتراضية مع قادة دول الساحل في 9 يوليو من العام الجاري أن بلاده ستنهي عملية “برخان” العسكرية وسيتم غلق قواعد عسكرية في كيدالوتومبكتووتيسالي من شمال مالي وستسير فرنسا نحو التقليص في عدد جنودها من 5000 عنصر الى 3500 في بداية عام 2022  ثم الى 2500 في عام 2023.

في المقابل تعتمد الخطة الفرنسية في مواجهة الارهاب في المنطقة على قوة “تاكوبا” الاوروبية ومساندة الجيوش المحلية مع إمكانية التعاون مع عدد من القوات الامريكية .

ويمكن الخروج من خلال جملة التصريحات التي ادلى بها “ماكرون” ووزير الخارجية بأن فرنسا تسعى الى لم شمل مختلف الجهود (خاصة منها الاوروبية) في منطقة الساحل والصحراء مع عزمها على رمي أعباء مواجهة الارهاب على قواتها المحلية، دون تحملها كامل المسؤولية ويعود ذلك الى ثقل الخسائر المادية والبشرية التي تحملتها فرنسا طيلة السنوات الماضية من تواجدها العسكري، حيث تتحمل سنويا ما يقارب 700 مليون يورو، ويبيّن ذلك سبب سعي فرنسا الى توحيد الجهود بينها وبين الدول الاوروبية الاخرى والولايات المتحدة الامريكية لتأمين منطقة الساحل والصحراء.

والاهم بالنسبة للرئيس الفرنسي “ماكرون” هو الفوز في الانتخابات القادمة، حيث أفضت نتائج سبر آراء في شهر يناير الماضي أن نسبة 51 % من الفرنسيين يدينون التدخل العسكري في منطقة الساحل و الصحراء المتوترة، ولذلك لن يقبل التضحية بهذه النسبة من التأييد لانتخابات عام 2022 مقابل التركز في منطقة كلفته خسائر كبيرة طيلة الثمانية سنوات الفارطة، وبالتالي فإن إعادة تنظيم الاستراتيجيات في المنطقة اصبح أمرا ضروريا بالنسبة له، فعملية “برخان” أيضا بعد تحقيقها فشلا ذريعا ووفقا لقول العديد من أبناء المنطقة لم يعد لوجودها أي موجب.

تدعيات التراجع الفرنسي عن منطقة الساحل والصحراء

تجد فرنسا اليوم نفسها في وضع حرج للغاية فمن ناحية يفتح تراجع دورها العسكري في منطقة الساحل والصحراء المجال أمام منافسيها من القوى الدولية الاخرى على غرار روسيا لمليء الفراغ التي ستخلفه في المنطقة.

 بالتالي ستخسر موقعا كبير من نفوذها، في حين ستسيطرالاطراف الدولية الاخرى على الثروات والموارد، ومن ناحية اخرى لن يكون التواجد العسكري في مصلحتها أو سيكونمُرحبا به في الفترات القادمة.

بالنسبة لمنطقة الساحل فإن الدور الفرنسي رغم أنه لم يحقق النتائج المرجوة فإنه يمثل وسيلة ضغط هامة على الجماعات الارهابية، وأي تراجع عسكري ستكون له تهديدات أمنية كبيرة على المنطقة وسيمكن المتطرفين من تطوير سقف طموحهم مما سينجم عنه تشكيل بؤر إرهاب جديدة وستعم المنطقة سلسلة من الحروب بين القوات المحلية الضعيفة الفاقدة للدعم الفرنسي وبين هذه التنظيمات، وبالتالي سترتفع نسبة الهجرة الغير النظامية وسيرتفع عدد اللاجئين الى الدول المجاورة وستدخل منطقة الساحل والصحراء في موجة أشد قوة من سابقتها من حالة عدم الاستقرار، حتى أن التحالفات الصغيرة الاقليمية لن تتمكن من مواجهة هذه الجماعات نتيجة عدم تلقيها للدعم من فرنسا.

ويجدر القول، أن الاستراتيجية الفرنسية الجديدة في إعادة التموضع العسكري في المنطقة لن تكون ذو تأثير كبير في مواجهة الارهاب في دول الساحل والصحراء فقوة “تاكوبا” تفتقد الى الخبرة في القتال على أرض المعركة وهي لا تقوم الى بمهمة التدريب أما بقية دول الاتحاد الاوروبي لن تكون مستعدة لخوض معارك في المنطقة التي تعتبرها خاصة بالنفوذ والمصالح الفرنسية.

ما هي الحلول الفرنسية أمام الوضع المعقد في منطقة الساحل والصحراء الافريقية؟

أمام التهديد الروسي لفرنسا في منطقة الساحل والصحراء، يمكنها أن تحتفظ بقوة “برخان” في المنطقة للحفاظ على نفوذها وتأمين مصالحها في منطقة غرب افريقيا والساحل، خاصة وأن الجزائر يمكن أن تستغل إحياء مبدأ عدم الانحياز مع دول الساحل  لصالح روسيا، وأن تعتمد على قوات “فاغنر” لتأمين حدودها، ما لم يقع تعديل الدستور الذي يسمح لقواتها بالقتال خارج حدود الوطن وهي غاية لن تسمح فرنسا بتحقيقها، لكنها ستحاول تخفيف أعباء التدخل العسكري بمحاولة توحيد الجهود في قوة “تاكوبا”.

وفي حالة عجزها عن ذلك يمكن أن تقوم فرنسابتغيير استراتيجياتهافي مواجهة الجماعات الارهابية بما يخفف من الخسائر البشرية والمادية عن طريق استبعاد المقاربات الامنية والعسكرية المكلفة والغير ناجعة كلياواعتماد خطط تنموية تغير الرؤية المعادية لها من بعض الاطراف المحلية في منطقة الساحل وتساهم بقدر كبير في دفع الارهابيين.

لكن سيظل الرأي العام الفرنسي النقطة المفصلية الهامة في قرار “ماكرون” الساعي لمنصب الرئاسة للمرة الثانية.

ويبدو أن احتمال الانسحاب التدريجي من منطقة الساحل والصحراء صعبا بالنسبة لفرنسا لإدراكها الجيد أن المنطقة لن تضل تحت قبضة الجماعات الارهابية دون اللجوء لقوى دولية اخرى وخصوصا روسيا التي تهدد تموقعها وكذلك الأطماع الكبيرة للولايات المتحدة الأمريكية التي تريد كذلك الهيمنة والسيطرة على المنطقة .