الأربعاء. أبريل 17th, 2024

غينيا-أميرة زغدود-1-4-2021

“رجل دولة إفريقي ليس فتى عريانا يتسوّل من الرّأسماليين الأغنياء” قولة ثوريّة اشتهر بها الزّعيم الغيني أحمد سيكو توري الّذي قال “لا” في وجه الاحتلال.

وعند تتعمّق في كرونولوجيّة هذه الشّخصيّة الغينيّة تجدها محمّلة بأمانة تحرير البلاد، وبواجب وطني كان مردّه تحرير الإنسان بهذه الفلسفة دخل توري بوّابة التّاريخ من باب النّضال منذ خمسينات القرن العشرين.

ويعتبر سيكو توري مرجعا في فنّ الدّيبلوماسية، فهو الرّئيس الأوّل في غينيا الذي دام تولّيه الحكم 26 عاما على التّوالي بعد استقلالها، من 2 أكتوبر1958 إلى غاية وفاته 26 مارس 1984، وقد شقّ مسار المقاومة لإخراج المستعمر الفرنسي من أراضي بلاده.

والمعروف ان أحمد سيكو توري أنّه لم يكن منحازا قطّ سوى للفقراء خاصّة و قد عايش نفس نشأتهم، فكانت له عند أبناء شعبه حظوة وإجلالا، وعند خصومه هيبة واعتبارا سيّما وأنّه قد حظي بوسام الصّليب الأعظم الخاص من درجة استحقاق لجمهورية ألمانيا الاتحادية سنة 1959، كما ظفر بجائزة لينين للسّلام في ماي من سنة 1961 من الاتّحاد السّوفياتي تقديرا لأعماله الإنسانية في القارة السّمراء وقلادة النّيل من الرّئيس المصري الأسبق جمال عبد النّاصر عقب زيارته له للقاهر في نفس السّنة والّذي كانت تجمع به علاقة صداقة إذ جعل سيكو توري جامعة كوناكري تحمل اسم عبد الناصر، إضافة إلى حصوله على وسام طوق الاستحقاق المدني سنة 1979، هذا وقد حاز سنة 1982 في عهد الرّئيس حسني مبارك على شهادة الدّكتوراه الفخريّة في التّاريخ الإسلامي من جامعة الأزهرعرفانا له بما قدّمه من انجازات ترقى بشعبه إلى ما هو إنساني وما أبداه طيلة مسيرته النّضاليّة في محاربة أشكال العبوديّة ولجم الأفواه والعنصريّة، إذ طرد سفير السوفييت من غينيا سنة1961 لأنّه اعتبر أنّ لكلا الحضارتين الإفريقية والغربيّة خصوصيّة كل على حده تأصّلها وتتفرّد بها عن غيرها.

وقد سبق وأن قال في كوناكري معربا على احتجاجه أثناء مواجهة الجنرال ديجول الّذي دعا الغينيين للاندماج في خطاب نادى فيه أبناء شعبه بأخذ خطوة جدّيّة نحو التّحرّر “نفضّل أن نعيش بحرّيتنا كفقراء على أن نعيش عبيداً بترف”، خاصّة وأنّ الشّعوب الإفريقيّة قد ذاقت الأمرّين فترة الحربين العالميتين فجنّدوهم ليكونوا جمرات تأجّج من وطأة الحرب على التّراب الإفريقي ناهيك على الأعمال الجبريّة الشّاقّة في المناجم وفي المزارع علاوة على إثقال كواهلهم بضرائب مجحفة للنظام الكولونالي…

رغم هذه السّوداويّة إلّا أنّ سيكوتوري كان من بين القلائل المحظوظين الّذين تقلدوا مناصب عليا لعلّ أهمّها منصب عمدة سنة 1955 في كوناكري، وأنتُدب ليكون عضوا في الجمعيّة الوطنيّة الفرنسيّة بين سنتي 1956 و1958 مع رفيقه السياسي ديالو سيف الله، إضافة إلى عضويته في المؤتمر الإسلامي بين سنة 1980 و سنة 1988 فكان داعما لحركات الاستقلال الإفريقية فشغل منصب رئيسا لنقابة العمال في غينيا الفرنسية أثناء الاستعمار سنة 1945 وانتخب عضوا في المؤتمر التّأسيسي لحزب التّجمع الإفريقي الديمقراطي فأسّس سنة 1947 الحزب الديمقراطي الغيني والّذي يدعو إلى فرض أسس الاستقلال والتّحرر التام من التبعيّة والاستعمار إلى أن فرض على المعمّرين تطبيق قانون العمل في غينيا وجاء ذلك إثر إضراب دام 73 يوما وذلك بغية حصوله على صفقة دبلوماسيّة مع الفرنسيين أوقدت نيران العداوة مع الإدارة الفرنسيّة آلت إلى فصله من العمل سنة 1941 غير أنّه بذلك التّمرّد صنع لنفسه قاعدة جماهريّة تناصر سياسته وتأيّد أعماله فمهّدت أمامه الطّريق لريادة مسيرته الثورية حتّى أسّس نقابة عمال البريد والاتصالات عام 1945 إلى أن أصبح عام 1946 بعد مشاركته في مؤتمر”CGT” أمينا عاما لاتحاد العمّال بوزارة الخزانة وبذلك حقّق سيكوتوري هدفه النّقابي الّذي اعتبره أسمى من الهدف السياسي.

ليس غريبا على سيكو توريه أن يجعل إسمه في الذّاكرة الجمعيّة وشما يصعب محوه منذ مسقط رأسه في 9 جانفي سنة 1922 في مدينة فارانا الّتي أنجبت من قبله جدّه الإمام المحافظ “ساموري توريه” والّذي كان له إيمانا قويّا مستشرفا بأنّ إفريقيا ستكون يوما “ولايات متّحدة إفريقيّة” إذ أخذ على عاتقه حفيده فكان لعقيدته بارا بل وتعهّد بتوحيد الأفارقة بجميع اختلافاتهم وتوجّهاتهم،فرغم كلّ ما اعترض بني جلده من النوائب والصروف وكلّ ما رآه الأفارقةمن العذاب صنوفا جرّاء الاستعمارآنذاكفقد انتصر توريه بتحقيق الخلاصوالاستقلاليّة لدولته غينيا والانعتاق من أنقاض الاستعمار وإسقاط إسم “غينيا الفرنسيّة”.

رغم شخصيّة سيكوتوري الكاريزمية والعبقريّة إلّا أنّه كان لبعض النّقاد موقفا حازما من هذا البطل الغيني الإفريقي ومن سياسته القوميّة معتبرين أنّها “سياسة عرجاء” لم تكن إلى ذلك الحدّ من الفلاح الّذي طمح له توري مبيّنين أنّه كان يقف على أرض زلّاقة سرعان ما تسوخ فيها الأقدام متوسّلا خطابا تعاطفيّة انفعالية مستغلاّ حنكته وإيجاده لفنّ البلاغة والتّلاعب بالكلام النّاعم والثّوري وذلك بغرض استمالة شعبه والتّأثير فيه، إذ اعتبروا أنّه كان يستقرأ خارطة العالم في مرآة مقعّرة خصوصا مع ما آلت إليه البلاد بعد خروج الاستعمار من تقهقر وانهيار اقتصادي وصحيّ واجتماعي وما أصاب شعبها بعد مماته من فاقة وإعواز، إذ لقّبه بعض المحلّلين ب”ملاك الهلاك”.

لم يرض سيكوتوري بالانصهار في البوتقة الأوروبيّة الشرقية بل كان يسعى للتخلّص من أشكال الخضوع الفرونكوفوني كما رفض قطعيا نظريّة فصل الدّين عن الدّولة فكان يرى أن مصطلح “الإسلام السّياسي” أدقّ من “السياسية الإسلاميّة” بل وأراد أن يجعل لغنيا لغة وطنيّة رسميّة وهويّة مخصوصة ، إذ يقول في أحد خطاباته فاضحا مطامع السّاسة الأوروبيّة في احتلال بلده ونظيراته من البلدان الإفريقية لِمَا تزخر به من موارد طبيعية ومنجميّة وطاقيّة وأراضي زراعية إضافة إلى الأنهار التسعة الإقليمية النابعة من غينيا خصوصا نهر النيجر..”الكولونيالية حطّمت الشخصية القومية الإفريقية؛ إلى حدٍّ جعل بعضنا ينظر إلى قيمنا وتراثنا وتقاليدنا الأصيلة، وصور إنسانيتنا، بعين الازدراء، بأنها مظهرٌ لحياةٍ همجيةٍ بدائية، لكي يخلق فينا العُقَد التي تؤدّي بنا إلى اختيار أسلوب الفَرْنسة… لذلك يجب أن نسعى بجهودنا المتواصلة لإيجاد طريقنا الخاص للتفكير والتطوّر؛ إذا أردنا أن يتمّ تطوّرنا دون المساس بشخصيتنا الإفريقية، إنّ أيسر طريقٍ لحلّ مشاكلنا هو الذي ينبع من واقعنا الإفريقي، وكلّما كانت هذه الحلول صادرةً من صميم طبيعتها وتطوّرها النظري وهدفها العلمي؛ كان حلّ المشكلات أسهل وأبسط، لأنّ الذين يشتركون في وضعها لن يكونوا ضائعين في متاهات التفكير النظريّ المجرد، والبُعد عن واقعهم وظروفهم الخاصّة، هكذا يجب أن تعبّر صفاتنا المميزة عن إبداعنا الأصيل في التفكير والعمل…”

ويذكر أنّ سيكو قد سبق وأن واجه مؤامرات ومكائد مدبّرة من الامبرياليّة الفرنسية الّتي كان غرضها الإطاحة بحكمه كما ساند دول جنوب إفريقيا من الاحتلال الديبلوماسي والمادي وقد أسهم في بناء اللبنة الأولى في تأسيس منظّمة الوحدة الإفريقية الرئيس الغاني “كواميهنكروما” فكوّن معه سيكو توري “اتّحاد غينيا وغانا” إلىأن انضمّت بعدها مالي سنة 1960 فتكوّن “اتحاد الولايات الإفريقية المستقلّة”.

وعُرف سيكو توري بصيته فكان له قدر ومقام في السّاحة الإفريقية لجهوده بغية إرساء السّلام والاستقلال في الدول الإفريقية ويُذكر أنّ ثاني كأس لعبت عليها دوي أبطال إفريقيا قد سمّيّت بإسمه.

لم تشمل نضالات أحمد سيكو توري جنوب إفريقيا فقط بل أسهم في الدفاع على فلسطين ومقدّساتها الإسلامية ضدّ العدوان الإسرائيلي سنة 1969 وقد طالب بعض الدول الإفريقية في القطع مع التّطبيع الصهيوني إضافة إلى محاولته حلّ الأزمة العراقيّة الإيرانيّة أثناء ترأّسه “لجنة السّلام الإسلاميّة” الموالية لمنظّمة المؤتمر الإسلامي،”، كما ساعد في إعادة عضويّة مصر إلى منظّمة المؤتمر الإسلامي عام1984..

نجح أحمد سيكو توري بعد وفاته سنة 1984 في كليفلاند، ليكون علامة فاصلة في التاريخ الغيني والإفريقي الحديث بكلّ ما فيه من محاسن وما عليه من مساوئ،أن يشكّل ملامح كينونة دولة غينيا إلى اليوم، مخلّفا وراءه مؤلّفات أبرزها “افريقيا والثورة” و”افريقيا في مسيرة النّهضة” و”الثّورة والدّين” و”التّجربة الفنّيّة والوحدة الإفريقيّة” خاطب فيها عقول القرّاء ثائرا على جميع أنواع التّفرقة وأشكال الرّأسماليّةجاعلا الشمس تبزغ في أراضي غينيا من بعد كسوف..