الثلاثاء. نوفمبر 19th, 2024

تونس-رباب حدادة:باحثة بالمركز الدولي للدراسات الأمنية العسكرية12-2-2021

عاشت ليبيا في 2011 ضغطا دوليا غير مسبوق وصل إلى حد شن حلف شمال الأطلسي عدوانا عسكريا استمر سبعة أشهر متتالية للإطاحة بنظام معمر القذافي حيث تم تدمير كل المعسكرات ومراكز الإتصالات وأغلب مؤسسات الدولة الليبية، ومع اغتيال الزعيم القذافي حدث فراغ أمني وسياسي خطير فتح أبواب الفوضى والإنفلات الأمني والإرهاب والتدخلات الأجنبية وتغول الميليشيات وجلب المرتزقة، إلى جانب ما حدث من تداعيات أمنية على المنطقة من انتشار السلاح وتفشي الإرهاب والتعريب والمتاجرة بالبشر. 

كان هناك إهمال كامل للملف الليبي الأمر الذي أطال عمر الأزمة الليبية، واقتصر التدخل الأجنبي على ضمان مصالحه الاقتصادية،غير أن التبعات الأمنية لتلك الفوضى ألقت بظلالها على دول الجوار والمنطقة وأصبحت ليبيا أرضا لإقامة معسكرات تدريب الإرهابيين والمرتزقة ونقلهم إلى ميادين الحرب والقتال في بؤر التوتر وخاصة في سوريا والعراق ومالي والنيجر والسودان والصومال والبلقان.

كما تم تسريب شحنات ضخمة من الأسلحة لإغراق دول الجوار وصولا إلى دول الساحل والصحراء والغرب الإفريقي، علاوة على ظهور تيارات الهجرة غير الشرعية نحو أوروبا انطلاقا من خلال السواحل الليبية، الوضع الذي شكل تحدي أمنيا واقتصاديا بالنسبة للدول الأوروبية.

أشعلت القوى العالمية فتيل الحرب في ليبيا لكنها في النهاية احترقت بالنيران ذاتها وكان لابد من غلق الملف الليبي واستعادة الإستقرار السياسي والأمني على الأراضي الليبية.

وجاءت جهود إيقاف نزيف الحرب المباشرة في ليبيا ووقف اطلاق النار بمبادرة تركية روسية في موسكو، في 13 يناير 2020 بعد أن تم استنزاف الجميع وتكبدت جميع الأطراف خسائر كبيرة في حرب طرابلس.. تركيا خسرت العديد من طائراتها المسيرة وفقدت السيطرة نسبيا على جماعاتها المسلحة وخشيت فقدان ولاء بعض الميليشيات الليبية التي كادت تشرف على هزيمة كبيرة.

أما الجانب الروسي فقد استنزف قواته في حرب سوريا وأزمات القوقاز، كما أن بوتين اعتمد سياسة الحد من الجبهات لذلك لم يكن على استعداد لمواصلة تمويل الحرب في ليبيا بالمقاتلين والعتاد.


وبالرغم من أن الأطراف الوطنية المتحاورة لم تتوصل إلى حل كامل في محاورات موسكو، إلا أنها كانت خطوة مهدت الطريق أمام لقاء برلين في 19 يناير 2020 الذي عزز الإتفاق على وقف النار وأدى إلى تكوين اللجنة العسكرية المشتركة 5+5 التي عملت منذ تشكيليها على الوصول إلى اتفاق عسكري مشترك.

وتواصلت المساعي لحل الأزمة وحاولت كل دولة استضافة الحوارات إما لإضافة لمسة دبلوماسية وتصدّر المشهد السياسي الدولي كالمغرب وألمانيا و تونس، أو من أجل خلق تأثير سياسي على الملف، وتعد مصر دولة الجوار الوحيدة التي استطاعت التأثير في المسار السياسي الليبي خاصة في لقاءات الغردقة والقاهرة.

تمكنت الأطراف المتحاورة في الفترة الممتدة بين لقاء برلين الأول ولقائي مصر من التوصل إلى نقاط عديدة مثل اتفاق وقف النار في 21 أغسطس بمبادرة وطنية ثنائية، ثم إلزاميّة إجراء انتخابات رئاسيّة وبرلمانيّة في أجل لا يتجاوز 18 شهرا، على أن يوّحد أطراف النزاع جهودهم لإعادة تشكيل المجلس الرئاسي وإنشاء حكومة وحدة وطنيّة وتفعيل قانون العفو والمصالحة الوطنيّة لعودة الليبيين في الشتات.

وعقد لقاء مونترو بسويسرا في7سبتمبر 2020 إلى جانب الإتفاق الشامل حول معايير وآليات اختيار الشخصيات المرشحة لتولي المناصب السيادية بلقاء بوزنيقة في 5 أكتوبر2020 .

غير أن الإتفاقات كانت حوارات خالية من كل إرادة للتنفيذ أو الإلتزام وأصبح المشكل الرئيسي ليس الإتفاق فحسب وإنما تنفيذ ما تم الإتفاق عليه، إذ كانت الأحداث على الميدان والمفاوضات في اللقاءات والمنتديات تسير في خطين متوازيين دون التقاطع في أي نقطة ما أدى إلى تعكر الأحداث وتزايد الفوضى، وكان من المنتظر في تلك الفترة اندلاع النزاع المسلح من جديد وانقسام الإقليم الليبي إلى مناطق حكم ذاتي، وبالرغم من الإتفاق على الحكومة الإنتقالية في جنيف يوم 05 فبراير 2021 إلاّ أن الوضع لا يزال هشا وخاصة على المستوى الأمني إذ لا يمكن أن نعتبر أن الملف الليبي قد تم اغلاقه ولكن التحسب الميداني على أشدّه وتحاول الأمم المتحدة أن تظهر بأنها نجحت في مساعيها لحل الأزمة.

في هذا الإطار بالذات كان التدخل المصري بلقائي الغردقة والقاهرة لإكمال مفاوضات برلين والموافقة على قرار مجلس الأمن 2542 لسنة 2020 وتعيين الأمم المتحدة الراعي الرسمي لمحادثات الغردقة والتباحث في المسار الدستوري الإنتقالي والاتفاق على تواريخ نهائية لتنفيذ اتفاقات مصر.

وكان اللقاءان بداية تقارب حقيقي للأطراف لأنهما جمعا كافة المعنيين بالقضية دون إقصاء وهو العنصر المنقوص في باقي المفاوضات لتشهد الأوضاع انفراجا نسبيا وبانت بوادر الحلول التي تدعمت بمحاورات جنيف في 23 أكتوبر 2020 والتي أدت إلى نقاط عديدة أهمها:

  • تواصل وقف إطلاق النار،
  • فتح الطرق البرية والجوية،
  • إعادة فتح المنشات النفطية ومواصلة الإنتاج،
  • إخراج المسلحين والمرتزقة وهو ما تم التوقيع عليه في اتفاق غدامس .

لكن مع هذا الإتفاق بدأت التساؤلات والحيرة بشأن سبل وآليات التنفيذ خاصة أن الأطراف المتفاوضة كانت تتبع سياسة المماطلة على الأغلب بما أن كل الأحداث التي اندلعت بعد غدامس كانت تسير بالملف الليبي باتجاه معاكس للإتفاقيات ونتائج المفاوضات وحركت الأيادي الخفية قطع الشطرنج من جديد،فعادت المناوشات الميدانية المسلحة للمليشيات بأعمال القتل والفوضى وتدفقت شحنات الأسلحة والمقاتلين إلى ليبيا.

وسط تصاعد الغضب تجاه البعثة الأممية بليبيا لإقصائها بعض الأطراف جاء ملتقى الحوار بتونس في 9 من نوفمبر 2020 والذي علقت عليه كل الآمال لكنه فشل في مجمله،باستثناء ما اتفقت عليه مجموعة ال75 بشأن خارطة طريق لإجراء انتخابات وطنية وشاملة في 24 ديسمبر 2021 كما اتفق المشاركون على ضرورة إصلاح السلطة التنفيذية بما يتماشى مع نتائج مؤتمر برلين، وحددوا هيكل واختصاصات المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة ومعايير الترشح لهذه المناصب .

مشاورات جنيف الأخيرة في يناير 2021 مكنت الدخول في مسار تطبيقي للاتفاقيات السياسية وذلك من خلال التوقيع على قائمات لانتخاب أعضاء المجلس الرئاسي ورئيس الحكومة وانتهت بالتصويت على القوائم بفوز قائمة محمد المنفي الذي تم اختياره رئيسا للمجلس الرئاسي ونائبيه عبد الله اللافي وموسى الكوني، في حين أسندت رئاسة حكومة الوحدة الوطنية إلى عبد الحميد دبيبة.


فازت القائمة ب 39 صوتا من جملة 73 صوتا ،فوز هذه القائمة دليل على القطع مع الفترة السابقة ومع شخصيات عجزت عن إدارة الأزمة بل كانت هي نفسها المتسبب الرئيسي في الأزمة لأن انتماءهم لم يكن للوطن بل كان إلى محاور أجنبية.

هذا التقدم الواضح في القضية الليبية جاء نتيجة لرغبة داخلية وهي موافقة كل الأطراف المتخاصمة على القائمة الجديدة للخروج من عنق الزجاجة، كذلك كانت التوافقات الإقليمية حجر الأساس في هذه المرحلة إلى جانب سعي مندوبة الأمم المتحدة ستيفاني وليامز إلى إنهاء فترتها بالنجاح قبل تسلم المبعوث الأممي الجديد مهامه.

إن التوافق المصري التركي منذ انفراج الأزمة الخليجية كان له دور على الأغلب، فخروج الطرف التركي ليس مجانيا خاصة أنه حرك الساحة الوطنية منذ 2011 وكان أكثر من عرقل اتفاقيات إخراج المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا كما مدد قبل فترة وجوده العسكري ب 18 شهرا .

وعلى الأغلب لم يخطط أردوغان في البداية لتسليم ليبيا غير أن التغيرات غير المنتظرة والمفاجئة في الساحة الدولية خاصة فوز بايدن ومشروعه المعادي لأردوغان وكذلك المصالحة الخليجية أو ما يسمى المصالحة الرباعية، حدّت من فترة صلاحية الولاية العثمانية في ليبيا، وبذلك دخلت تركيا في هدنة مع كل من الإمارات ومصر والسعودية.. ولكن السؤال المطروح مقابل ماذا؟


هل المقابل هو تسوية للحدود البحرية مع مصر؟
أم أنه تنازل عن دعم النظام السوري؟
أم اتفاق تجاري واقتصادي خاصة مع فقدان الحلفاء الإقتصاديين لتركيا؟

فرص كثيرة قد يكون اغتنمها النظام التركي في مقايضة بالأمن الليبي لكن الأهم الآن هو اغتنام الليبيين فرصة انسحاب التدخل الأجنبي والإرساء بالدولة إلى بر الأمان والذهاب إلى انتخابات رئاسية وتشريعية ليبية برعاية الحكومة الإنتقالية الجديدة.

ليبيا استقبلت كذلك مبعوثا أمميا جديدا، هو يان كوبيش الذي اختاره غوتيريش ووافق عليه مجلس الأمن الدولي في 16 يناير 2021 عوضا عن غسان سلامة الذي قامت بمهامه طيلة الفترة الماضية ستيفاني ويليامز ،وقد عمل كوبيش في دول شهدت العديد من الصراعات الداخلية كلبنان، وأفغانستان والعراق غير أن الخبرة المهنية قد لا تكون كافية إذا لم يتمتع المبعوث بالحياد الكافي في وقت لا يحتمل فيه الملف الليبي مزيدا من التعقيدات .


أمام العديد من التحديات والملفات العالقة، مثل الخروج الكامل للمرتزقة وتفكيك الميليشيات وعودة اللاجئين والنازحين وكذلك مسألة التتبعات القانونية لجرائم الحرب ومرتكبيها وتوحيد صفوف الجيش الوطني،ومن الواضح أن الإعداد لانتخابات ديسمبر 2021 ونجاحها سيكون طريقا شائكا ومليئا بالألغام التي تركتها حكومة “الوفاق” وألغام الأمم المتحدة، خاصة أن البنية المؤسساتية في الدولة قد تشتت بين الشرق والغرب .

أمام عبد الحميد دبيبة أيام فقط لتشكيل حكومته ويمكنه تمديد هذه الفترة ب 21 يوما إضافية على أن لا تتجاوز لنيل ثقة البرلمان تاريخ 19 مارس 2021 ، وعلى دبيبة العمل على الضغط على الآجال والتسريع في الإرساء الكامل للسلطة الإنتقالية وأن لا تتم المماطلة، فإضاعة الوقت ليست في صالح الدولة التي أصبحت مهددة في استمراريتها.

بعد تجربة قاسية عاشتها ليبيا والعالم لعقد من الزمن علم الجميع أن ليبيا هي معدل المعادلات الإقيليمة في البحر الأبيض المتوسط وشمال إفريقيا بل وفي العمق الإفريقي، والمساس بأمنها سيكون له عواقب عديدة مازالت ملامحها ظاهرة في دول الساحل والصحراء وكذلك الدول الأوروبية التي اعتقدت أنها في مأمن من بارود الحرب الليبية.
قطع شوط هام في الملف الليبي بعد التصويت على شخصيات توافقية تقود المرحلة الإنتقالية، ويظل السؤال:
كيف سيتم الحسم في المسائل العالقة الأخرى، الأمنية والإقتصادية ؟
وما هو الدور الذي سيلعبه المبعوث الجديد؟ وما مدى الصدق الدولي في حل الملف الليبي ؟