الأربعاء. أبريل 24th, 2024

حوار خاص وحصري مع الدكتور أيمن شبانة، مدير مركز البحوث الأفريقية، كلية الدراسات الأفريقية العليا جامعة القاهرة

أجرت الحوار زهور المشرقي:تونس-2-12-2020

فى الرابع من نوفمبر2020، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبى آبى أحمد الحرب على إقليم تجراى، بهدف إخضاعه لسلطة الدولة المركزية، بعد إقدام حاكمه على إجراء انتخابات تشريعية فى الإقليم بالمخالفة للدستور الفيدرالى، وبينما تمسك آبى أحمد بمواصلة الحرب، رافضاً كافة الوساطات الدولية والإقليمية للاحتكام لمائدة التفاوض، اتجه حاكم تجراى لتوسيع جبهات القتال، بتوجيه الضربات الصاروخية للداخل “إقليم أمهرة”، والخارج “العاصمة الإريترية أسمرة”، الأمر الذى يثير المخاوف من وقوع أكبر دولة بالقرن الأفريقى، ورمانة ميزان الاستقرار بالإقليم، فى براثن الحرب الأهلية، بما يقوض الاستقرار السياسى والأمنى فى الإقليم ككل.

وعلى ذلك، حاور موقع ‘افريكا باور’التابع للمركز الدولي للدراسات الاستراتيجية الامنية والعسكرية بتونس الدكتور ايمن شبانة مدير مركز البحوث الافريقية العليا بجامعة القاهرة، حيث سعى إلى تحديد طبيعة الصراع الدائر حالياً فى إثيوبيا، ورصد العوامل التى أدت لاحتدام الصدام بين الحكومة المركزية وحكومة تجراى، وكيفية إدارة الصراع، وما قد يترتب عليه من نتائج، والسيناريوهات المحتملة لتسوية الصراع، وأثرها على الاستقرار السياسى والأمنى فى إثيوبيا.


س-دعنا نبدأ دكتور بعرض الإرث التاريخى للصراع الإثيوبى الراهن حتى يفهم المتلقي طبيعة هذا الصراع؟

ج– يعتبر الصراع الدائر حالياً فى إقليم تيغراي امتداداً لإرث الصراع التاريخى بين القوميات الإثيوبية، لأجل السيطرة على السلطة والثروة بالبلاد، حيث ترجع نشأة إثيوبيا إلى مملكة أكسوم القديمة التى تأسست فى مرتفعات تيغراي الشمالية فى القرن السادس قبل الميلاد، قبل أن تحل بها الفوضى، التى لم ينقذها منها سوى اعتلاء الأسرة السليمانية عرش البلاد عام 1270م لتدخل البلاد مرحلة النهضة الوسطى، التى أصبحت خلالها اللغة الأمهرية هى اللغة الرسمية لملوك الحبشة وهو (الاسم القديم لإثيوبيا حتى عام 1941).

و دخلت البلاد العصر الحديث منذ العام 1855، فى عهد الأباطرة ثيودور، يوحنا الرابع، منليك الثانى، هيلاسيلاسى، حيث تم نقل العاصمة لأديس أبابا، مع الاتجاه للتوسع جنوباً، عن طريق الغزو، والتوسع شمالا عبر توقيع الاتفاقات مع الدول الاستعمارية الأوروبية، حيث تأسست الإمبراطورية الحبشية كدولة – وليس كأمة- تضم مجتمعاً تعددياً، يتكون من 85 جماعة إثنية، أكبرها جماعة الأورمو (40% من السكان)، وأكثرها تحكما فى السلطة الأمهرة (25% من السكان).

ولكن حكام البلاد من الأمهرة اتجهوا لقهر الجماعات الأخرى، والتمييز بينهم فى توزيع الثروة والسلطة، على أسس عرقية ودينية وثقافية، مع إدماجهم داخل الدولة عن طريق الأساليب الإكراهية غير الوظيفية. وهو ما حال دون نضوج تجربة التعايش السلمى وتحقيق الاندماج الوطنى، وأدى لتفجر المشكلة القومية بالبلاد. فاضطرت أغلب القوميات المضطهدة لتكوين حركات للتحرر المسلح،
تطالب بالانفصال عن الدولة المركزية والاستقلال. ومن أهمها: حركات التحرير فى تيغراي واريتريا وأورومو والعفر والصومال الغربى (أوجادين).

ونجحت التحالفات بين الحركات المسلحة فى إسقاط كل من النظام الإمبراطورى (هيلاسيلاسى 1974)، ونظام الدرج (منجستو هيلاميريام 1991)، ليؤول الحكم إلى الجبهة الديموقراطية الثورية لشعوب إثيوبيا، التى ضمت كل من: جبهة تحرير تيغراي، وحركة أمهره الديمقراطية الوطنية، والمنظمة الديموقراطية لشعب أورومو، والجبهة الديمقراطية للشعب الجنوبى الإثيوبى.

كان د. ملس زيناوى الذى ينتمى إلى التيغراي، هو الشخصية الأبرز داخل الجبهة، مما منحة الجدارة لتولى رئاسة الحكومة (1994-2012)، فى نظام برلمانى يأخذ بالفيدرالية القومية، حيث كانت البلاد تنقسم إلى تسعة أقاليم، تتمتع بالحكم الذاتى، فيما يعرف إقليم تيغراي فى إطارها باسم المنطقة رقم (1).

تمتع التجراى فى عهد زيناوى بأوضاع بالغة التميز على كافة مستويات ومؤسسات الحكم المدنية والعسكرية بالدولة، رغم انتمائهم إلى الأقليات، حيث يأتى الإقليم فى المرتبة الخامسة من حيث عدد السكان، بنسبة (6% من الشعب الإثيوبى). وبالرغم من ذلك فقد أصبحت قوات تيغراي هى عماد الجيش الإثيوبى بعد إسقاط نظام منجستو هيلاميريام. وأضحى أغلب قادة الاستخبارات والأجهزة الأمنية الأخرى ينتمون للتجراى.

كما بات التجراى يتحكمون فى تعيين آباء الكنيسة الأرثوذكسية، وأعضاء المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، بما لديهم من سلطة روحية قوية فى إثيوبيا.

حافظ التجراى على تميزهم نسبياً فى عهد هيلاميريام ديالسن الذى خلف زيناوى فى رئاسة الوزراء (2012-2018).

ويعود ذلك إلى أن الأخير لم يكن من أعضاء الجبهة الثورية الحاكمة، كما أنه ينتمى إلى أقلية الولايتا الجنوبية (2.3% من السكان)، ويتبع المذهب البروتستانتى فى دولة تتمتع فيها الكنيسة الأرثوذكسية بسلطة روحية طاغية التأثير فى الحياة السياسية. لكن جاء انتخاب آبى أحمد رئيساً للوزراء فى أبريل 2018 ليقلب الأمور رأساً على عقب.

س-ماطبيعة الخلاف السياسى بين النظام الإثيوبى وحركة تيغراى دكتور؟

ج– لم ينتظر آبى أحمد طويلاً حتى أعلن خلال أداءه لليمين الدستورية عن سياسة إصلاحية ترمى لمحاربة الفساد، وإرساء السلام عبر ” تصفير المشكلات”، وفتح قنوات للحوار مع المعارضة، ودعوة معارضى الخارج للعمل من الداخل، والإفراج عن المعتقلين، ورفع اسم بعض الحركات المسلحة من قائمة الإرهاب، وتعزيز حقوق الإنسان والاهتمام بقضايا المرأة، وإمكانية توقيع اتفاق للسلام والمصالحة مع الجارة الشمالية ” اريتريا”.

و لذا فقد توجس قادة تجراى من سياسات رئيس الوزراء الجديد، واعتبروه بمثابة تهديد حقيقى لمراكزهم السياسية ومكتسابتهم المالية، فى وقت يتمسك فيه التجراى بالبقاء ضمن معادلة السلطة حرصاً على الاستفادة من الموارد الطبيعية للبلاد، والاستئثار بالنصيب الأكبر من المساعدات السنوية التى تتلقاها البلاد من المؤسسات والجهات المانحة، والتى تقدر بنحو 3.5 مليار دولار، بالإضافة إلى تأمين استثماراتهم فى قطاع إنتاج الغذاء والدواء والعقارات والتعدين، وضمان حصولهم على العمولات من شركات الاستثمار الأجنبى.

وبرّر التيغراى مخاوفهم بانتماء آبى أحمد إلى الأغلبية ” قومية الأورمو”، وما يتمتع به من شخصية قوية وخبرات سياسية وعملية، حيث شغل العديد من المناصب القيادية بجهاز الاستخبارات، وتولى وزارة العلوم والتكنولوجيا، وكان نائباً لرئيس إقليم أوروميا، بالإضافة إلى احتمالات تحالفه مع تنظيمات الأمهرة.

وبالفعل تحققت مخاوف التيغراي. وتجلى ذلك فى مظاهر متلاحقة أهمها على المستوى الداخلى: إقصاء العديد من رجال الحرس القديم من مناصبهم، على خلفية اتهامات بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان وإساءة استخدام السلطة. وإبعاد شركة “ميتيك ” التابعة للقوات المسلحة عن مشروع سد النهضة، إثر اتهامات صريحة بوجود أخطاء فنية ووقائع فساد بمشروع السد. بالإضافة إلى الصدام مع تنظيمات المعارضة الأخرى، خاصة من الأورومو، حيث تم اعتقال المعارض الأورومى جوهر محمد، وهو الحليف السابق لرئيس الوزراء. وعلى مستوى العلاقات الخارجية وقع آبى أحمد اتفاقاً – بوساطة إماراتية سعودية- لتسوية النزاع الحدودى مع إريتريا فى يوليو2018، وهو الاتفاق الذى يقضى بإعادة منطقة بادمى الحدودية ” المتاخمة لإقليم تجراى” إلى السيادة الإريترية.

وفى غضون ذلك، تصاعدت التوترات الإثنية، خاصة فى أقاليم أوروميا وأوجادين، مما أدى لنزوح زهاء 2.5 مليون مواطن داخل البلاد.

كما تواترت حوادث القتل لبعض الشخصيات العامة، ومنهم مدير مشروع سد النهضة. والمطرب هاتشالو هونديسا، الذى ينتمى إلى جماعة الأوروومو، الأمر الذى أثار الاحتجاجات بالداخل وفى الشتات الإثيوبى أيضاً، والذي يصل إلى 2.5 مليون إثيوبي بالخارج، يعيش أغلبهم بالولايات المتحدة. كما شهدت البلاد تراجعاً فى مؤشرات الأداء الاقتصادى، بارتفاع معدلات التضخم، ونقص النقد الأجنبي، وزيادة أعباء الديون الخارجية.

فى خضم هذه الأحداث المتلاحقة، تم تدبير محاولة لاغتيال آبى أحمد فى 23 يونيو2018، بعد أقل من شهرين من تقلده منصبه، لتشير أصابع الاتهام مباشرة إلى رئيس الأمن السابق فى جبهة تحرير تيغراي، كما تعرض النظام لمحاولة انقلابية دبرها قائد الأمن السابق بإقليم أمهرة فى يونيو2019، انطلاقاً من مدينة بحر دار “حاضرة الإقليم”، وهى المحاولة التى اغتيل خلالها حاكم أمهرة، ورئيس أركان الجيش الإثيوبى بأديس أبابا. لكن التطور الأبرز تمثل فى نجاح ضغوط جماعة سيداما فى انتزاع موافقة النظام على إجراء استفتاء للانفصال عن الشعوب الجنوبية لإثيوبيا، وإقامة إقليم جديد بالبلاد يتمتع بالحكم الذاتى.

وهو ما حدث بالفعل فى نوفمبر2019، حيث أصبح إقليم سيداما هو الإقليم الإثيوبى العاشر، بعد تأييد 89,5% من أبناء الإقليم للاستقلال، وهو ما ينذر بتكرار الأمر من جانب الجماعات القومية الأخرى.

بالرغم من ذلك، مضى آبى أحمد قدماً فى تنفيذ سياساته التى بدت إصلاحية فى الظاهر، فيما يتجه باطنها للتخلص من قيود التحالف فى إطار الجبهة الثورية الحاكمة، وتحجيم نفوذ اليتغراي، وقطع السبل أمام المعارضه من القوميات الأخرى، مستغلاً فى ذلك حالة التعتيم الإعلامى، ومستفيداً من الدعم الأمريكى، الذى تجلى بحصوله على جائزة نوبل للسلام للعام 2019، فى مشهد غاب عنه الرئيس الإريترى أسياس أفورقى، رغم كونه شريكاً أساسياً فى إرساء السلام بين الدولتين.

وبالفعل، أعلن آبى أحمد عن تأسيس “حزب الازدهار” فى ديسمبر2019، كآلية مؤسسية لقيادة البلاد، بدلاً من الجبهة الديموقراطية الثورية، حيث ضم الحزب ثمانية أحزاب هى: حزب الأورومو الديمقراطي، وحزب الأمهرة الديمقراطي، والحركة الديمقراطية لشعوب جنوب إثيوبيا، وأحزاب عفار، والصومال الإثيوبي، وجامبيلا، وبني شنقول جومز وهرر. بينما رفضت جبهة تيغراي الانضمام للحزب الجديد.

كما تم تجميد المخصصات المالية لإقليم تجراى بالموازنة الحكومية للعام 2019/2020، والتى تقدر ب 272 مليون دولار. وكذا تم التحفظ على الحسابات المصرفية ل34 شركة من الشركات التابعة لصندوق الهبات لإعادة تأهل إقليم تجراى. وهو ما اعتبره حاكم إقليم تيغراي “ديبريتسيون جبريمايكل” محاولة حكوميه لتدمير اقتصاد الإقليم. ثم جاء قرار مجلس الانتخابات الإثيوبى فى 31 مارس 2020 بتأجيل الانتخابات البرلمانية التى كانت مقررة فى مايو2020 إلى 29 أغسطس التالى، ثم تأجيلها مجدداً، بسبب جائحة كورونا، ليكون بمثابة “القشة التى قصمت ظهر البعير”.

إذ كان ذلك يعنى تمديد عمل الحكومة المركزية والبرلمان، رغم انتهاء ولايتهما رسمياً، وهو ما فسره قادة التيغراي بأنه محاولة حكوميه لتفويت الفرصة على المعارضة للفوز بالانتخابات، مما دفع التيغراي للقيام بنوع من استعراض القوة، وذلك بتنظيم العروض والمسيرات العسكرية، التى تخللها حمل الأسلحة الخفيفة والثقيلة، مع الإعلان فى 12يونيو2020 عن إجراء انتخابات تشريعية بالإقليم، لتحديد أعضاء المجلس التشريعي الإقليمي وممثلي الإقليم في المجلس التشريعي الفيدرالي، وذلك فى سابقة هى الأولى من نوعها، حيث تم تكوين مفوضية للانتخابات، وإجراء الاقتراع بالفعل فى 9 سبتمبر2020، وهو ما رفضته الحكومة المركزية بشكل قاطع، باعتباره مخالفة لأحكام المادة 102 من الدستور، التى تنص على إنشاء مفوضية فيدرالية للانتخابات، وليس مفوضيات إقليمية، ليبدأ بذلك فصل جديد من المواجهة بين الطرفين.

س- ماهي شروط التسورية اذن؟

ج-سعت كل من الحكومة وحركة تيغراي لاتخاذ خطوات استباقية لمباغتة خصمه. فاستولت قوات تيغراي على القاعدة العسكرية الشمالية التابعة للجيش الإثيوبى، وما تحويه من أسلحة ثقيلة. وهددت بنقل الحرب إلى ميادين جديدة. فيما أعلن آبى أحمد الحرب الشاملة على الإقليم، مع فرض حالة الطوارئ فى شمال البلاد لمدة ستة أشهر، مؤكداً أن الجيش الإثيوبى يخوض عملية عسكرية حاسمة لفرض القانون وضمان السلام والاستقرار بشكل نهائي. وأنها ستكون عملية سريعة لن تدوم طويلاً، وذلك لاقتحام عاصمته “ميكيلى”، وتحطيم القوة العسكرية للتيغراي، وإخضاع الإقليم لسيادة الحكومة المركزية.

ولذا فقد استخدمت القوات الحكومية قواتها الجوية بشكل مكثف، استثماراً لما تتمتع به من تفوق نسبى فى هذا الشأن. كما أقدم رئيس الورزاء على إقالة وزير خارجيته ورئيس جهاز الأمن والاستخبارات، ورئيس أركان الجيش، فى خطوة مفاجئة توحى باتجاهه للاعتماد على أهل الثقة وعدم التركيز على اعتبارات الجدارة. وكذا تم اعتقال العشرات من المسئولين المنتمين إلى جماعة اليتغراي بأديس أبابا والمدن الأخرى، بتهم الخيانة وزعزعة استقرار البلاد. وهو ما نددت به اللجنة الإثيوبية لحقوق الإنسان.

فى المقابل، أعلن حاكم تيغراي أن الإقليم يتعرض لما يشبه الغزو االخارجى. كما لجأت قواته إلى تدمير مطار أكسوم، وتوجيه الضربات الصاروخية إلى إقليم أمهرة والعاصمة الإثيوبية أسمرة، وذلك لقطع خطوط الإمداد عن القوات الحكومية، ومنع القوات الإريترية من التقدم صوب إقليم تجراى، لدعم القوات الإثيوبية من جهة، واستعادة منطقة بادمى الحدودية من جهة أخرى.

وضع طرفا الصراع شروطاً معقدة مرتفعة الأسقف لوضع السلاح وإنهاء القتال. إذ أعلن رئيس الوزراء الإثيوبى عن شروط ثلاثة هى: استعادة الشرعية فى الإقليم، وتقديم قادة التمرد إلى المحاكمة، ونزع سلاح قوات التيغراي، فيما تمسك حاكم تجراى بتشكيل حكومة انتقالية لتسيير الأعمال خلال فترة انتقالية، يتم خلالها إجراء الانتخابات التشريعية. وتبدو شروط الطرفين لإنهاء الصراع شبه مستحيلة على الأقل بالنسبة لبعضها. فنزع سلاح التيغراي هو أمر تنوء به قدرات الجيش الإثيوبى. كما أن تكوين حكومة انتقالية لإدارة الانتخابات على المستوى القومى أمر تتمسك الحكومة الإثيوبية برفضه.

فى غضون ذلك، ترك الصراع آثاراً سلبية على الأوضاع الإنسانية والاجتماعية بإقليم تيغراي، حيث توالت موجات اللجوء والنزوح خارج الإقليم.

وكشفت منظمة الأمم المتحدة للطفولة “اليونيسيف” عن أن نحو 2.3 مليون طفل باتوا بحاجة ماسة للمساعدة جراء اندلاع الصراع فى تجراى، كما وقعت العديد من الانتهكات لحقوق الإنسان، خاصة ضد المدنيين.

وفى هذا السياق نددت منظمة العفو الدولية بمقتل عشرات المدنيين في مذبحة وقعت ببلدة ماي كاديرا جنوب إقليم تيغراي، نسبها شهود إلى قوات موالية لحركة تحرير تيغراي.

ومن المنتظر أن تزداد الأوضاع الأمنية الإنسانية سوءاً فى إثيوبيا، نظراً لقصر المدى الزمنى لمهلة الأيام الثلاثة، التى منحها رئيس الوزراء الإثيوبى فى 23 نوفمبر الجارى لاستسلام قوات تيغراي، قبل اقتحام مدينة ميكيلى عاصمة الإقليم، حيث يتوقع أن تزداد موجات اللجوء والنزوح خارج المدينة، التى تكتظ بنحو 525 ألف من السكان، وأن يسقط الآلاف من الضحايا المدنيين جراء الاقتحام المرتقب باستخدام الأسلحة الثقيلة.

س-هل هناك تأثير على دول الجوار الاثيوبي؟

ج-بالإضافة لما سبق، كان للصراع آثار سلبية على دول الجوار الإثيوبى، مع تدفق موجات اللاجئين إلى السودان، بواقع 4000 آلاف لاجئ يومياً، لتعلن الأمم المتحدة عن توقعات بارتفاع أعداد اللاجئين فى المستقبل المنظور إلى زهاء 200 ألف لاجئ، بما ينذر بكارثة إنسانية وشيكة، حيث تنوء القدرات السودانية بتقديم العون الإنسانى للاجئين، فى وقت لا تستطيع فيه الخرطوم عملياً وأخلاقياً التوقف عن استقبال المزيد من اللاجئين، رغم إعلان حكومة ولاية القضارف السودانية إغلاق حدودها مع مع إقليمي أمهرة وتيغراي.

كما تشير التحليلات إلى إمكانية تأثر الأوضاع الأمنية بالصومال سلبياً، مع قرار الحكومة الإثيوبية بسحب ثلاثة آلاف من جنودها العاملين ضمن بعثة الاتحاد الأفريقى فى الصومال “أميصوم”، وذلك بهدف المشاركة فى المجهود الحربى ضد التجراى. بالإضافة إلى الصدامات المتوقع حدوثها داخل القوات الإثيوبية ذاتها، بسبب التوجس من عناصر التجراى المشاركين فى بعثة أميصوم.

من جهة أخرى، فإن استمرار الصراع من شأنه التأثير بالسلب على الاستثمارات الأجنبية بالإقليم. كما أنه سيمنح إثيوبيا ذريعة إضافية لعرقلة مسار مفاوضات سد النهضة، مما سيضر بالمصالح المصرية.

وقد بدت المؤشرات على ذلك مع إعلان السودان تعليق مشاركتها فى المفاوضات، بدعوى إفساح المجال لمشاركة أكبر للاتحاد الأفريقى وللخبراء الأفارقة، رغم أن الاتحاد لم يحقق أى تقدم يعتد به منذ توليه ملف الأزمة فى يونيو2020، وأن الخبراء الأفارقة ليس لديهم ذات الخبرة التى يتمتع بها خبراء البنك الدولى.

س- دكتور ، هل هناك بوادر للتسوية السياسية؟

ج-توالت التصريحات الصادرة على المجتمع الدولى بضرورة وقف القتال، والوصول إلى تسوية سلمية عبر مائدة المفاوضات، حيث أكد الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش أن استقرار إثيوبيا أمر مهم لمنطقة القرن الأفريقي بأكملها، داعياً طرفى الصراع إلى الاحتكام إلى مائدة التفاوض. وهو ما أكدته أيضاً الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى والاتحاد الأفريقى.

لكن آبى أحمد لم يستجب إلى مطالب المجتمع الدولى بوقف القتال، ورفض مبادرات الوساطة من جانب أوغندا وجيبوتى. وأعرض عن استقبال وفد الوساطة التابع للاتحاد الأفريقى، حيث نفت وكالة الأنباء الإثيوبية الرسمية قبوله لاستقبال الوفد، الذى قيل إنه يضم كل من: يواكيم تشيسانو، الرئيس السابق لموزمبيق، وإلين جونسون سيرليف، رئيسة ليبيريا السابقة، وكغاليما موتلانثي، الرئيس الأسبق لجنوب أفريقيا.

فى المقابل، دعا حاكم تجراى الاتحاد الأفريقى إلى التدخل لمنع البلاد من الانزلاق إلى الحرب الأهلية الشاملة، مؤكداً أن الإقليم سيكون جحيماً على القوات الإثيوبية فى حال اقتحامه.

وهنا يبدو واضحاً أن الضغوط الخارجية على طرفى الصراع لم تكن كافية، وأنه ربما يكون هناك ضوء أخضر للحكومة الإثيوبية لتحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب فى أرض المعركة، لعلها تستفيد منها كأوراق للضغط على مائدة التفاوض.


س- هناك اذن سيناريوهات للتفاوض ؟

جنعم، على ضوء المعطيات السابقة، فإن الصراع الراهن فى إثيوبيا يمكن أن يؤول إلى ثلاثة سيناريوهات هى:


1- التسوية التفاوضية:


قد يؤدى استمرار القتال وامتداده زمنياً وأفقياً، ليطال آقاليم أخرى فى إثيوبيا، إلى اضطرار النظام الإثيوبى إلى القبول بالوساطة الخارجية، والاحتكام إلى مائدة المفاوضات، بحثاً من مخرج سلمى للصراع، يتمثل فى إنهاء حالة التمرد المسلح، نظير حصول التجراى على جزء من كعكة الثروة والسلطة.
وهذا السيناريو وإن كان يتسق مع الأفكار الداعية إلى تحقيق الاندماج الوظيفى داخل الدولة الإثيوبية، لكن تطبيقه يستلزم تراجع آبي أحمد عن مشروعه السياسى الذى يستهدف تجاوز صيغة الفيدرالية الإثنية المطبقة فى إثيوبيا منذ عام 1994، بما ينذر إما بتفكك حزب الازدهار الوليد، أو استيعاب التيغراي فى إطاره مرة أخرى.

2- سيناريو المغالبة:


يمكن أن يتحقق هذا السيناريو مع نجاح القوات المسلحة الإثيوبية فى اقتحام عاصمة إقليم تيغراي، وإلقاء القبض على قادة التمرد المسلح، وتقديمهم إلى المحاكمة، وهو ما يتيح لرئيس الوزراء فرصة تنفيذ مخططه لإنهاء الوضع المسيطر لجبهة تحرير تيغراي، وفرض السيطرة على حكم البلاد من خلال حزب الازدهار. ويعتمد آبى أحمد فى ذلك على دعم حكام الأقاليم الإثيوبية له ضد التيغراي، وضعف الضغوط الخارجية على نظامه.

لكن هذا الوضع لن يحقق استقراراً لإثيوبيا على المدى الطويل، خاصة أن دعم حكام الأقاليم للنظام الإثيوبى لا يضمن استمرار تمتعه بالدعم الشعبى.

كما أن حركة تجراى قد تعاود الكرة مجدداً، وقد تتجه إلى اتباع سياسة حافة الهاوية، وتصفية قادة النظام الإثيوبى أنفسهم. وهو أمر وارد فى ظل القيود التى قد تقلل من اتجاه التجراى لإعلان الانفصال، والذى ربما يسهم فى تأزم أوضاع الإقليم، باعتباره سيصبح دولة حبيسة، تفتقر إلى الموارد النفيسة والاستراتيجية، حيث يعتمد 46% من الناتج المحلى للإقليم على الزراعة. وهنا يمكن أن يؤول حال اليتغراي إلى وضع يشبه ما حدث بالنسبة لجنوب السودان، التى ازدادت الأوضاع فيها سوءاً بعد الانفصال، رغم اختلاف الخلفيات السياسية والمعطيات فى الحالتين.

3- الحرب الأهلية الممتدة:

فى ظل توازن القوى بين طرفى الصراع، قد يطول أمد الحرب الأهلية، لنصبح أمام وضع مشابه للحال فى إقليم دار فور بالسودان. وهو ما يعنى نجاح حركة تجراى فى استدراج الجيش الإثيوبى إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، بما يقوض الاستقرار السياسى والأمنى فى إثيوبىا ودول الجوار فى القرن الأفريقى وحوض النيل أيضاً، خاصة إذا ما اتجهت بعض الأقاليم الإثيوبية إلى تفعيل حق تقرير المصير الوارد فى المادة 39 من الدستور الإثيوبى.

ويمكن أن يتحقق هذا السيناريو إذا ما نجحت حركة تيغراي فى التحالف مع قوى المعارضة فى الأقاليم الأخرى، خاصة فى إقليم أورومو.

وفى حال حدوث هذا السيناريو، فإن المخرج قد يتمثل فى إزاحة رئيس الوزراء آبى أحمد عن المشهد، من خلال دفعه إلى تقديم استقالته، على غرار ما حدث مع سلفه هيلاميريام ديسالين، أو عن طريق محاصرته دوليا، خاصة من جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبى، بعدما تبين أن رجل نوبل للسلام لم يختلف فعلياً عن غيره من الحكام الإثيوبيين الذين اعتادوا اللجوء لإقصاء خصومهم السياسيين، واستخدام العنف ضد المعارضة.

وفى تقديرى فإن السيناريو الأول “التسوية التفاوضية” هو السيناريو المرجح، فالمجتمع الدولى ليس بوسعه تحمل تبعات تفجر الأوضاع فى القرن الأفريقى، الذى يشرف على طريق البحر الأحمر الملاحى، بما له من أهمية استراتيجية قصوى،كما أن الحجم المتنامى للاستثمارات والتجارة الدولية والإقليمية مع إثيوبيا سوف يدفع الأطراف الخارجية إلى ممارسة الضغوط وتقديم المبادرات للتسوية، وفى مقدمة هؤلاء الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الخليج العربى.