إعداد :أميرة زغدود
تقع إثيوبيا شرقي القارة السمراء، تتشارك في حدودها مع خمس دول : إريتريا من الشمال وجيبوتي من الشمال الشرقي، والصومال من الشرق والجنوب الشرقي، والسودان من الغرب والشمال الغربي، وكينيا من الجنوب والجنوب الغربي .
تضمَ إثيوبيا أكثر من ثمانين قومية كل لها مقوماتها الخاصة، وتنقسم إلى تسعة أقاليم: التيغراي، عفر، هرر، الإقليم الجنوبي، بني شنقول جوميز، أوروميا، أمهرة، جامبيلا، والإقليم الصومالى،علما أن للتسعة أقاليم حكوماتها الخاصة وأعلامها الخاصة ولكن جميعها تنطوي تحت حكم نظام سياسي فيدرالي وتعمل وفق الدستور الإثيوبي .
يبلغ عدد سكان إثيوبيا أكثر من 114 مليون نسمة، وتحتل المركز الثاني إفريقيًّا بعد العملاق الإفريقي “نيجيريا”، وتوجد أكثر من 100 لغة بالبلاد حسب اختلاف الأقاليم والأعراق المكونة للمجتمع الإثيوبي .
تتميَز إثيوبيا بالتعدد العرقي والإثني ما نتج عنه العديد من الصراعات العرقية، فضلا عن تواتر الحركات الإنفصالية، إذ شهدت البلاد احتجاجات الأورومو المناهضة للحكومة عام 2015 بسبب نزاع بين هذه الأخيرة ومواطنين من عرقية “أورومو” حول ملكية بعض الأراضي بسبب توسعات مدينة أديس أبابا على حساب إقليم أوروميا.
وقد اتسعت رقعة المظاهرات لتشمل المطالبة بالحقوق السياسية وحقوق الإنسان، فضلا عن صراعات واحتجاجات عقب انتخابات 2005، وانتخابات 2010، وذلك لعدة أسباب أبرزها استئثار التيغراى بالسلطة والثروة إلى جانب الظلم المسلَط على إقليم أوروميا بالرغم من أنها تشكل القومية الأكبر في القوميات الإثيوبية.
حقيقة انفصال مقاطعة التيغراي
تعرف اليوم المشهدية السياسية بإثيوبيا، توترات كبيرة وتخوفات دولية بعد اندلاع المواجهات المسلحة واسعة النطاق بين الجيش الفيدرالي بالبلاد وقومية التيغراي، والتي أسفرت عن انشقاق في صفوف جيش البلاد وانفصال المقاطعة .
بقيت التيغراي باسطة أياديها على الإئتلاف الحاكم لعقود وهي الجماعة العرقية التي تشكل حوالي 6 في المئة من سكان البلاد فقط ،إلا أن التاريخ السياسي للمنطقة جعلها أغنى من مناطق أخرى تفوقها تعدادا سكانيا وأعظمها تأثيرا.
فرضت التيغراي هيمنتها على الساحة السياسية في إثيوبيا منذ الإطاحة بزعيم المجلس العسكري “منغستو هيلا مريام” عام 1991، لكن نفوذها تراجع في ظل حكم آبي أحمد.
كان تقلَد آبي أحمد لرئاسة الوزراء الحالية في أبريل 2018 محطة مهمة في التاريخ الإثيوبي، فهو أول رئيس حكومة من قومية الأرومور، وهي أكبر مجموعة عرقية بالبلاد، كانت قد قادت الإحتجاجات المناهضة للحكومة السابقة .
وتركز عمل آبي أحمد على الإصلاح السياسي وتنمية اقتصاد البلاد والتغيير في سياسات التعاطي مع المسائل الداخلية التي كانت منطلقا لبداية الإحتجاجات الشعبية عام 2016 والتي راح ضحيتها الكثيرون .
كما شرع في انتهاج سياسات إصلاحية استهلّها بإنهاء حالة الحرب مع إريتريا المجاورة، ورفع القيود الصارمة التي فرضت منذ العهد الماركسي على القوميات العرقية في البلاد.
إلا أن الوضع العسكري والسياسي سرعان ما توتر على خلفية تداخل القوميات والحدود، بحيث أصبح
الإستقرار الإقليمي لإثيوبيا يمثل تحديَّا كبيرا للثبات على الصيغة الفيدرالية التي تحكم بين القوميات الإثيوبية المختلفة.
ومع تنامي التوتر الحالي يبرز تساؤل ملحَّ حول الأسباب الكامنة وراء حالة التشاحن الراهنة وتداعياتها المتوقعة بشأن مستقبل البلاد.. إلى أين؟
في الرابع من الشهر الحالي، أمر آبي أحمد بتوجيه ضربات جوية وإرسال قوات من الجيش إلى إقليم تيغراي، بعد توجيهه اتهامات لـ “جبهة تحرير شعب تيغراي” بشنّ هجوم على قاعدة عسكرية، لتنطلق بذلك سلسلة جديدة من الصراع في المنطقة.
جاء قرار آبي أحمد بعد أقل من عام من تسلمه جائزة نوبل للسلام بأوسلو العاصمة النرويجية، لنجاحه في إنهاء الحرب مع إريتريا، إلا أن هذا القرار يعتبر بمثابة منعرج من الممكن أن يذهب بالبلاد وبمناطق القرن الإفريقي إلى مستنقع الفوضى والحروب الأهلية من جديد .
وقد ازداد الصراع بالبلاد حدّة بزيادة تعارض المواقف بين رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد ورئيس حكومة التيغراي” ديبريستشان غيبرمايكل “. ففي الوقت الذي تعهد فيه آبي أحمد بعدم التراجع عن استخدام القوة حتى يتم نزع كل أسلحة الإنفصاليين التيغريين، ويرفض كافة الدعوات الدولية للوساطة من أجل حل، يؤكد في المقابل غيبرمايكل أنه لا يمكن هزيمة جيشه الذي يفوق قوامه الـ 250 ألف مقاتل.
والواضح أن سبيل تحقيق الإستقرار في منطقة القرن الإفريقي يعتمد على قدرة إثيوبيا على تحقيق سلم داخلي بالبلاد وخارجها مع جيران الحدود. ويبدو التحدي الأكبر والأصعب هو السلم الداخلي الذي يجب العمل عليه والتركيز على كيفية إخراج البلاد من دوامة الحرب الأهلية وعدم إفساح المجال لخلق تفرقة بين الأقاليم المنضوية تحت الفيدرالية الإثيوبية .
ليس من السهل على إثيوبيا القيام بإصلاحات سياسية واقتصادية تقلص من نفوذ عرقية التيغراي التي بسطت يدها على الحكم لعقود، ومن المؤكد أن هذه العرقية لن تتقبل الإصلاحات بسلاسة، لكن الأمر لا يقتصر فقط على عرقية التيغراي، فهناك أيضا عرقية الأمهرية والصومالية ثاني وثالث أكبر العرقيات في إثيوبيا ولهما مشكلات تتوجب إيجاد حلول جذرية .
والشائع في مختلف التحليلات حول الأزمة الإثيوبية،أن تأجيل الإنتخابات الأخيرة هو السبب الكامن وراءها والتي كان من المقرر إجراؤها في أغسطس الماضي،إلا أنه تمَ تأجيلها بسبب جائحة كورونا، وهو ما منح آبي أحمد تفويضا وطنيا لمواصلة الحكم حتى موعد إجراء الإنتخابات في تاريخ لاحق،وهو الأمر الذي رفضته جبهة تحرير إقليم التيغراي التي استبقت الأحداث وأجرت انتخابات في الإقليم رفضتها العاصمة أديس أبابا.
لكن الإقبال الشديد على المشاركة في هذه الإنتخابات الإقليمية دعَمت قوة مطالب التيغريين بالحصول على قدر أكبر من الحكم الذاتي للإقليم، وهو ما مثَل تحديا مباشرا لآبي أحمد الذي يريد تعزيز سلطة الحكومة المركزية ومحاولة إزاحة مفاصل القوة باقليم تيغراي .
ولكن.. لنعد قليلا ونتأمل قرارات آبي أحمد والإزاحة المنتظمة التي قام بها لعناصر من قومية التيغراي في مفاصل الدولة على فترات متباعدة نسبياً خلال العامين الماضيين، بدءً بتغيير رئيس الأركان ومدير جهاز الأمن والمخابرات الوطنية، في تعديلات هي الأولى من نوعها منذ 18 عاما.
هذه الإجراءات تبدو منطقية من باب العمل على محاولة تغيير مفاصل الدولة ومحاولة خلق مجال يمتاز باختلاف الرؤى السياسية ، ولكن مقاطعة إقليم التيغراي لم ولن يراها كذلك بل سيراها من باب إقصاء المعارضة السياسية من المشهد السياسي بإثيوبيا.. فبعد توجيه الإتهامات والطعون في الإنتخابات الأخيرة والتعريج على حركة الإزاحة التي يزعمون أنها مدبرة من قبل آبي أحمد للحد من قوة الإقليم وتقليص وجوده السياسي .
مساعي دولية للتهدئة
أعرب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن قلقه إزاء الإشتباكات المسلحة في منطقة تيغراي ، كما عبرت مفوضية الإتحاد الإفريقي عن تخوفها من تصاعد وتيرة المواجهات العسكرية. ودعت المفوضية إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية، واحترام حقوق الإنسان وضمان حماية المدنيين، وحثَت على ضرورة إيجاد حلول سلمية والعمل على خلق مجال للحوار ضمانا لمصالح البلاد ، وعدم إيقاعها في خندق الإنقسامات وضمان وحدتها واستقرارها الداخلي والإقليمي في علاقتها مع دول الجوار .
من جهته، أكد الممثّل الأعلى للإتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل أن الضرورة ملحة لإجراء محادثات لاستعادة السلام والحوار السياسي في إثيوبيا.
بدورها، أعربت السودان عن قلقها إزاء تطورات الأوضاع في إثيوبيا، داعية الأطراف إلى حل الصراع بشكل سلمي وعن طريق التفاوض. وفي تصريح لوزير الدفاع السوداني، اللواء يس إبراهيم يس، أشار إلى أن بلاده تنظر بقلق لما يجري في إثيوبيا، داعيا كافة الأطراف إلى التعامل بحكمة والإحتكام للحل السلمي وضبط النفس.
في هذه الأثناء، تشهد إثيوبيا حالة من الإستنفار الأمني حيث تم اتخاذ العديد من القرارات الحكومية كإعلان حالة الطوارئ بإقليم تيغراي لستة أشهر، ومنع تحليق الطيران المدني بالمنطقة، وإعادة 4 جنرالات متقاعدين إلى الخدمة العسكرية بقوات الدفاع الإثيوبية.
تشهد إثيوبيا اليوم معركة أعمال عنف عرقية تربك عمل آبي أحمد الإصلاحي، وتهدد الفيدرالية العرقية للبلاد. فالمواجهة المسلحة في إقليم تيغراي قد تؤدي إلى اندلاع حرب أهلية، وتتسبب في إطالة أمد الصراع في تيغراي قد تمتد تداعياتها إلى مناطق أخرى في إثيوبيا وإلى دول الجوار على غرار إريتريا ، إذ تفيد الأخبار بأن الرئيس الايريتري أسياس أفورقي التقى كبار مسؤولي الجيش لبحث تطورات الوضع في تيغراي،خشية أن يسهم تواصل الصراع بإثيوبيا في تأخير إجراءات ترسيم الحدود الإثيوبية- الإريترية، والتي لا تزال عالقة برغم توقيع اتفاق السلام عام 2018.
اثيوبيا اليوم على شفا حرب أهلية لن تزيد الوضع إلا تأزما، ومحاولات آبي أحمد للسيطرة على إقليم تيغراي المنفصل لن تكون في صالح الوحدة الوطنية للبلاد، بل ستعمق الأزمة وسط جملة التحديات التي تواجهها البلاد من أجل الحفاظ على استقرارها الأمني والإقليمي .